المسرح في مرآته أوسع من النص، وأوسع من الخشبة، لأنه نتاج حركة الحياة في الذات، كما هي حركة اللغة في النص، ومن تماس الحركتين يستجيب الخطاب المسرحي لإيقاعية العرض التي تستجيب هي الأخرى لإيقاعية المشاهدة والتلقي، حينها يأخذ المسرح معناه الأوسع عبر هذه الإيقاعية المتصلة بين الذات واللغة والواقع والحياة.
فالمسرح سؤال يوقظ السؤال، لأنه كما يرى بيتر بروك «يضع كل شيء موضع مساءلة، وامتحان» ،«ويعكس الآلام الوجودية للجنس البشري، ويكشف غموض الوضع الإنساني» حسب فيكتور هيجو راسكن باندا الذي يرى أن «المسرح يتحدى الخواء والظلال والصمت»، وبالتالي «فعلينا أن نجرب المسرح لا لكي نفهم ما يحدث لنا، وإنما لكي نلمح بصيص الأمل وسط الفوضى والكوابيس، لأن المسرح فعل من أفعال الإيمان بقيمة الكلمة التي تنم عن الحكمة في عالم فقد عقله».
إذا كان المسرح أيضاً «أداة قوية من أجل السلام والتعايش» حسب جيسيكا كاهو، فهو لدى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة السؤال والتحدي والتمرد، والأمل والخلاص والتجدد، وفضاء للتعايش والتسامح والتعارف والحوار، كما هو مدرسة للأخلاق والحرية، ورسالة في المحبة والسلام والجمال، لأنه كما يقول سموه، «يشكل عامل توحد إنساني، يستطيع من خلاله الإنسان أن يغلف العالم بالمحبة، والسلام، ويفتح آفاق حوارات بين مختلف الأجناس، والأعراق، والألوان على اختلاف معتقداتهم الإيمانية».
ففي فلسفته المسرحية يربط سموه بين المسرح والجمال والحياة، فعندما لا تدرك البشرية قيمة الجمال في الحياة تأخذها الحروب، إلى عبثها، وفوضاها، ذلك أن الجمال المكتمل كما يرى سموه، «لا يتوافر في فن من الفنون بقدر ما هو عليه في المسرح، فهو الوعاء الجامع لكل فنون الجمال، ومن لا يتذوق الجمال لا يدرك قيمة الحياة. والمسرح حياة، فما أحوجنا اليوم إلى نبذ كلّ أنواع الحروب العبثية» وهنا يدرك سموه في فلسفته المسرحية العميقة قيمة المسرح المنطوية في قيمة الحوار، لأن المسرح هو المختبر الحقيقي لحركة التواصل الإنساني، في ترسيخ قيمة الحوار كحاجة إنسانية من أجل التعايش، ومن هنا تصبح العلاقة بين الحوار في المسرح والحوار في الحياة علاقة جدلية، فكلما انزاحت المسافة بين البشر انزاحت الخلافات والنزاعات، وتلامست الرؤى، وكلما اتسعت المسافة اتسعت الفرقة، واصطدمت الرؤى، وانكسرت الأحلام، لذلك كان الحوار الذي يدعو إليه سموه في خطابه المسرحي، وفي كلماته حصناً وهوية للإنسانية، لأنه يتأسس على فضائين فضاء الحياة وفضاء المسرح، فهو حوار مع الذات أولاً وحوار مع الآخر ثانياً، كما هو حوار بين الماضي والحاضر في حركية النص المسرحي، فالمسرح يجسد الحوار ويدعو إلى الحوار، حيث يتلاقى الجميع على منصة الإنسانية، أكان ذلك في حركة الحاضر أم كان في استدراج حركة الماضي لتكون إيقاعاً متصلاً مع حركة المستقبل.
لذلك وعبر هذه الفلسفة الكاشفة للرؤى المسرحية، ودور المسرح في تعزيز القيم الإنسانية، وتعزيز التواصل بين البشر، كان لا بد من البحث عن حركة مسرحية جديدة، تؤصّل الخطاب المسرحي العربي، وتوسّع فضاءاته، وترسخ دوره في عملية التنوير والتغيير، لذلك كانت دعوة سموه إلى مسرح يستجيب لهذه الرؤى، لأنه مؤمن بأن الحركة المسرحية العربية تحتاج إلى رؤى جديدة، وتحتاج إلى فعل حقيقي يجعل من المسرح يسهم مساهمة حقيقية في تغيير الوعي الإنساني والعلاقات الإنسانية إلى الأفضل وكما يقول، «نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى مسرح جديد، يسهم مساهمة فعّالة في خلق أنسية جديدة، تحل محل الأنسية الحالية التي أصابها الوهن، وتضع حقاً الإنسان في صلب شواغل حكام العالم بأجمعه، بل لا نبالغ إذ نقول إنه يؤسس لحضارة جديدة، دعامتها قيام نظام عالمي تضامني تكافلي». مؤكداً على حاجتنا «إلى مسرح قوي، متمرد، يغضب ويثور على هذه الأوضاع». وفي سبيل هذا التجديد المسرحي والرؤية المسرحية الجديدة التي يجب أن تحملها رسالة المسرح كان الخطاب المسرحي لدى سموه خطوة جادة في هذا السبيل ومن هنا كان اتجاهه إلى التاريخ ليستدرج العبرة والحكمة منه، وليجعله دليلاً إلى تفكيك الحاضر، فالحادثة التاريخية لديه ليست غاية بذاتها بقدر ما هي وسيلة لفهم الحاضر، بحيث يضع مرآة التاريخ مقابل مرآة الواقع، وعبر هذا التقابل تنمحي المسافة الزمنية، حيث تتقابل الحياة والأفكار بظلالها، وبالتالي ترى الكائنات صورتها بعد أن تأوّلت بالفكرة، لتنهض الرؤية المسرحية التي تفرد ظلها في ذاكرة المتلقي والمشاهد، ما يتيح للنص أن يدخل في عملية إعادة إنتاج للتاريخ عبر أدوات الحاضر، كما يتيح فضاءات واسعة للتأويل يشترك فيها المتلقي عبر إعادة إنتاج النص والعرض إنتاجاً متعدد الرؤى بعدد المشاهدين.
هنا تتسع رسالة المسرح لتصبح فعلاً ثورياً وفعلاً محرضاً ومحفزاً على إعادة النظر في الذات، وبالتالي إعادة النظر في طبيعة العلاقات الإنسانية المختلفة، على ضوء الحركة الجدلية التي يتركها المسرح في الوعي الإنساني، ويبدو هذا جلياً في جميع الإنتاج المسرحي لسموه (عودة هولاكو 1998 حتى داعش والغبراء 2016 مروراً بـ (الواقع صورة طبق الأصل 2000 القضية 2000 الإسكندر الأكبر 2007 النمرود 2008 شمشون الجبار 2008 طورغوت 2011 الحجر الأسود 2011) والمتبصر لهذا النتاج المسرحي تنجلي أمامه الرؤية المسرحية التي يشتغل عليها سموه، في إعادة قراءة التاريخ لخلخلة الواقع، عبر رؤى فنية تجريبية في الشكل والمضمون، من دون أن يشكل التجريب انزياحاً للرسالة المسرحية التي يحملها سموه موضوعاً ورؤية وإبداعاً، فالحدث التاريخي أو الوثيقة التاريخية ليست سوى محرض على قراءة الواقع، عبر مرآة المؤلف ومرآة المتلقي، فالنص المسرحي لا يصادر على المتلقي رؤيته، ولا يضيّق مساحة التأويل لديه، بل يفسح له مساحة واسعة من حرية القراءة والتأويل، ما يوسِّع دور المسرح في تغيير الوعي. ويوسّع الدور التشاركي والحواري الذي يفسحه المسرح بين النص والعرض والمشاهد.
وهذا الأمر جلي أيضاً حتى في استدراجه للتراث وقيمه ومثله، بحيث يسعى إلى تعميق العلاقة مع التراث، وتأصيله في الذات عبر قراءة معاصرة، تتخذ من المادة التراثية ذاكرة متحركة عبر الزمن، ما يجعلها أكثر انسجاماً مع حركة الحاضر، وحركة المستقبل. ويجعلها أكثر رسوخاً في ذاكرة المتلقي.
وثمة جانب يمتاز به النص المسرحي لدى سموه، وهو ما يتصل بعتبة العنوان، فالعنوان في نصوص صاحب السمو حاكم الشارقة هو نص موازٍ للنص الذي ينفتح بدوره على مرآتي الواقع والتاريخ، فأحياناً يشير إلى الحدث التاريخي، وأحياناً يشير إلى الشخصية ذاتها، وأحياناً يوسّع معناه ليشمل قضية ما دون أن يضيق معناه الزمن، وأحياناً يعتمد التناسب الإيقاعي بين لفظتين كما هو الحال في عنوان مسرحيته «داعش والغبراء»، فالعنوان اعتمد الإبدال بين لفظة داحس التاريخية وبين لفظة (داعش) المعاصرة ليترك التأويل للمتلقي للربط بين الحمولة التأويلية لكلتا اللفظتين، وبالتالي أصبحت الرؤية أوسع من النص والعرض، تتحرك بأسئلتها المفتوحة على الزمن. «ليبقى المسرح ما بقيت الحياة».
هكذا تنجلي البصيرة المسرحية لدى سموه في التأسيس لمسرح المستقبل، مسرح الخير، مسرح الكشف، مسرح الرؤية، ومسرح الإنسان، ليكون منصة للخلاص.
المصدر: الخليج الثقافي – د. بهيجة مصري إدلبي