حكايات في صور

عرض الكل

كتاب لسلطان يحقق في 23 ملفاً

محاكم التفتيش توثيق لجرائم طالت أكثر من نصف مليون مسلم في الأندلس

صدر مؤخراً عن منشورات القاسمي كتاب «محاكم التفتيش.. تحقيق لثلاثة وعشرين ملفاً لقضايا ضد المسلمين في الأندلس»، لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وجاء الكتاب في نسختين عربية، وإسبانية، جاءت العربية في مجلدين، الأول 712 صفحة، والثاني 678، أما النسخة الإسبانية التي ترجمها محمد نذير الحمصي، فجاءت أيضاً في مجلدين، اشتمل الأول على 638 صفحة، والثاني على 610 صفحات.

وقد سبق أن وصف صاحب السمو حاكم الشارقة هذا الكتاب، موجهاً حديثه لقراء العربية في جميع أنحاء العالم العربي، والعالم، بقوله: «إن هذا الكتاب يختلف عن كتابي السابق «إني أُدين» الذي يتحدث عن اتخاذ القرارات من الملك إلى الحكومة.

الكتاب الجديد يتناول محاكم سرّية، تمارس الإعدام والحرق، وأموراً كثيرة في حق المسلمين، وربما الآن الشعب الإسباني لا يعلم عنها، لأنها كلها محفوظة سرياً، واستطعت أن أحصل على 23 مخطوطة في صورة ملفات محاكمات، وبحثت فيها وحققتها».

يقول صاحب السمو حاكم الشارقة، في مقدمة الكتاب: «بعد غزو الملوك الكاثوليكيين في عام 1492م لغرناطة، آخر ممالك المسلمين المتبقية في إسبانيا، أدخلوا تشريعاً يقضي بتحويل المسلمين في غرناطة عن دينهم، قسراً، إلى المسيحية، وإلا سيواجهون النفي. ورغم أن الأغلبية اختاروا التحول عن دينهم، بدلاً من النفي، إلا أن مجموعة الوثائق تبين أنه بعد أكثر من نصف قرن، واصل المسلمون المحافظة على لغتهم، وعاداتهم وممارسات دينهم. وهذا جدير بالملاحظة نظراً لحقيقة أنه في عام 1526م صدر مرسوم بتاريخ 7 ديسمبر، بنقل مقر مكتب التفتيش الذي كان حتى ذلك الوقت في «كوين Coin» في ملاقة إلى غرناطة، حيث تم بذل المحاولات بإصرار «لإزالة نطاق ممتد من الثقافة والهوية المحلية»، والهدف هو حظر «ثقافة موروثة بأكملها وليس الدين ذاته فحسب». وتعكس إحدى الوثائق في المجموعة فشل السلطات في القيام بتنصير ناجح للمسلمين».

وتابع سموه: «صحيح أن الكتاب حجمه كبير، ولكن الأسلوب الذي كُتبت به ملفاته سلس، وجذاب، وكل ملف يروي حكاية، وهو مسلٍ، ويثقف الإنسان بدينه، والعجيب في هذه المحاكمات أن هؤلاء المسلمين كانوا يعرفون اللغة الإسبانية، لكنهم كانوا يرفضون في المحاكمة التحدث بها، وكانوا يصرّون على التحدث باللغة العربية، لدرجة أنهم كانوا يجلبون إليهم مترجماً من العربية إلى الإسبانية، والعكس».

وأضاف سموه: إن الندرة الشديدة في وثائق محاكم التفتيش يجعل هذه المجموعة هامة على نحو استثنائي لتوفير صوت لأولئك المسلمين الصامتين خلال قرون، إنها مصدر استثنائي هام للمعلومات حول ازدهار حضارة المسلمين في غرناطة، والتي سرعان ما ستختفي بعد رد فعل المسلمين تجاه الضغط المتزايد عليهم لترك ثقافتهم، ما أدى إلى انتفاضة «البَشَرات» «Alpujarras» خلف جبال «سيرانفادا» «Sierra Nevada»، والمعروفة أيضاً باسم حرب غرناطة في الفترة من عام 1568م-1571م.

انتزاع الاعترافات

تظهر وثائق المحاكمة العمليات البيروقراطية الشاملة التي قامت بها محاكم التفتيش. عموماً، كانت تبدأ بمذكرة اعتقال، وتستمر بتسجيل المحاكمة نفسها التي تتضمن عدداً كبيراً من التحقيقات المفصلة للمتهم، والشاهد، وفي بعض الأمثلة هناك تسجيل للتعذيب المستخدم لانتزاع الاعترافات من المتهم، يليه النطق بالحكم، والعقوبة المفروضة.

وكانت هذه المحاكمات تجري تحت ستار صارم من السرية، وتم فرض عقوبات قاسية بسبب إفشاء أي معلومات تتعلق بمضمون المحاكمة.

فقد تم اتهام المسلمين بتمسكهم بمجموعة متنوعة من الممارسات الدينية، مثل: اتباع شعائر الصلاة، الاحتفال برمضان، إعطاء الصدقات للفقراء خلال تلك الفترة، الاحتفال بيوم الجمعة بوصفه يوماً مقدساً، والعمل يوم الأحد. وهكذا، على سبيل المثال، تعترف المسلمة «ماريا دي مونتورو» «Maria de Montoro» بأنها أنجزت أداء الوضوء بغسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل القدمين، ثم الصلاة على سجادة، وكبّرت، وقرأت الحمد، وسورة قل هو الله أحد، وتستمر في وصف الصلاة من ركوع، وسجود، وهناك مسلمة أخرى تدعى «بياتريس تاهونيا» «Beatriz Tahonia»، وهي خياطة، أفادت بأنها عندما سئلت في الشارع ما إذا كانت هي وصديقاتها لسنَ «مسيحيات معمّدات»، فأجابت بأنهن تلقين التعميد عندما كنّ صغيرات، ولكن لم يهتممن بذلك، بل إنهن لا يتذكرنه.

وقد ثبتت براءتها ربما بسبب تدخل محاميها الذي تم إرفاق إيصال عن خدماته المعروضة بالوثيقة التي تحتوي أيضاً على إيصال نفقات السجن.

وقد صرحت هي، وأغلبية المتهمات، بأنهن يؤمنّ بأن «شريعة المسلمين» صالحة، بل إنها حتى أسمى مما هو لدى المسيحيين، وأنه بالنسبة إليهن جميعاً هو السبيل للدخول إلى الجنّة.

مجتمع المسلمين

من خلال هذه المحاكمات، تبرز صورة لعالَم مزدهر، حيث الروابط القديمة لمجتمع المسلمين لم تنفصم عراها. فلا يزال المسلمون يعيشون مع بعضهم بعضاً، ويتحدثون العربية، ويشعرون بأنهم يمكنهم التعبير بدرجة معينة من الحرية عن أفكارهم الداخلية حول الدين، وممارسته في الواقع، ومعظم المتهمين لم يتكلموا سوى العربية، وكان يجب ترجمة أسئلة المستجوب من خلال المترجم الموجود دائماً، «جارسيا تشاكون» «Garcia Chacon»، وكان الكثير من المتهمين على تواصل مع مسلمين متخصصين لديهم دور هام في المحافظة على المعرفة وممارسة دينهم. وكان المتهمون عموماً، من الطبقات الاجتماعية الأكثر تواضعاً في الحياة، مثلاً أصحاب الخانات (نزل)، مزارعين، خياطين، نساجين إلخ. ومن بينهم هناك الكثير من النساء اللواتي كان لهن تأثير بدورهن التقليدي في الثقافة الدينية لأطفالهن. ومن خلال أداء الشهادات أمام القاضي، يمكن للمرء أن يحصل على انطباع عن مدى البساطة بين المتهمين الذين تم سحبهم من حياتهم الوادعة ليواجهوا آلة التفتيش التي لا ترحم. وكانت الأحكام الصادرة عن محاكم التفتيش قاسية جداً. ففي حالة ثلاث من المسلمات، «ماريا ألباكين» «Maria Alabquen»، و«ماريا ميجميج» «Maria Megmeg»، و«إينيس دي لا سيرنا» «Ines de la Sirna»، تم عرضهن على إحدى محاكم التفتيش والتي تسمى «اوتو دو في» «Auto de fe»، وهي محاكمة تجرى من قبل رجال تابعين للعقيدة الكاثوليكية، على مداخل كل قرية أو مدينة، علناً أمام الأهالي، فإن أنكر المتهم، أحرق في الحال وإذا اعترف بذنبه أنه منشق عن العقيدة الكاثوليكية، حكم عليه بالسجن لعدة سنوات، وقد اعترف الكثيرون بذنوب لم يقترفونها، وقد كانت أول محاكمة من هذا النوع في «إشبيلية» «Sevilla» عام 1481م.. حيث أجبرت المذكورات على ارتداء لباس الزنادقة المنشقات عن العقيدة الكاثوليكية المدانات لبقية حياتهن، وقد اعترفن علناً بخطيئتهن، كما تمت مصادرة كل ممتلكاتهن، وأرسلن إلى السجن لمدة ثلاث سنوات. وبدت إدانتهن كوصمة عار لكل عائلة منهن.

مسلمو «البَشَرات»

كان العالم يلحق الأذى بسمعة تلك المحاكمات تحت تهديد متنامٍ، وسرعان ما تلقت تلك المحاكمات ضربة حاسمة بانتفاضة المسلمين في منطقة «البَشَرات»، (1568م-1571م) التي تم قمعها بضراوة من قبل «فيليب الثاني» «Philip II».

وتم وصف الوضع الدرامي الذي وجد المسلمون أنفسهم فيه في زمن الانتفاضة أقوياء، في اعتراف المسلمة «بيرناردينا» «Bernardina»، ابنة «ألفونسو دو دولار بن ياهيس» «Alonso de Dolar Ben Yahes»، التي كانت في سن الثامنة عشرة عندما أدلت بشهادتها للتحقيق في الخامس من شهر إبريل/ نيسان عام 1570م، عندما نشبت حرب «البَشَرات» لمدة عامين تقريباً.

وتتذكر «بيرناردينا» أن مسلمي «البَشَرات» وصلوا إلى قرية «دولر» «Dolar» في غرناطة وهم يهتفون صرخة الحرب «محمد، محمد»، ويحثون السكان على الانضمام إليهم في منطقة جبال سيرانفادا. وكان سكان «دولر» في عام 1568م كلهم من المسلمين تقريباً (230 مسلماً و2 من المسيحيين القدامى) وقد انضم المسلمون إلى الثوار بعد أن دمروا كنيسة «دولر».

ورغم أن والد «بيرناردينا» أدرك أنه أياً كان مسار الاتجاه الذي سيأخذونه، فإن مستقبلهم كان مشؤوماً، وقال: «إذا ذهبنا إلى المسلمين، فسوف يقتلنا المسيحيون، وإذا ذهبنا إلى المسيحين، فسوف يقتلنا المسلمون»، إلا أنه أخذ فتياته الثلاث إلى منطقة جبال سيرانفادا لمدة أربعة أيام. ثم غادر الأب، وذهبت الفتيات إلى قرية «كالاهورا» «Calahorra» في غرناطة طلباً للرأفة من المسيحيين. وهنا أخذت «برناردينا» كعبدة.

كانت انتفاضة «البَشَرات» محاولة الخندق الأخير من قبل المسلمين للمحافظة على دينهم وأسلوبهم في الحياة. وتعرض التمرد للاستفزاز بسبب الإجراءات الوحشية المتضمنة في الأمر الملكي لفيليب الثاني في الأول من يناير/ كانون الثاني عام 1567م، ولاسيما في منع استخدام اللغة العربية والذي يعني إبادة الثقافة. ووفقاً لأحد الشهود، كان ثمة أمل كبير في أن يغزو الأتراك غرناطة، وبالتالي سيتمكنون من ممارسة دينهم بحرية. كان الأمل عبثياً: فقد تم طرد معظم السكان المسلمين من مملكة غرناطة، ولكن في هذه الوثائق النادرة، لا يزال بإمكاننا أن نلتقط لمحة من ثقافة إسلامية ثرية في السنوات التي سبقت النفي.

ويختتم سموه الكتاب بالإشارة إلى إحصائية تؤكد استمرار محاكمات التفتيش منذ تأسيسها في الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1478م حتى تمّ إلغاؤها في الخامس عشر من شهر يوليو/ تموز عام 1834م، وقد راح ضحيتها نصف مليون مسلم.

آلاف الإعدامات

وقد بلغت عدد حالات الإعدام الموثقة كما يؤكد سموه:
ما قبل عام 1530م نحو ألفي حالة، وما بين عام 1530م- 1630م نحو ألف حالة، وما بعد 1630م حتى إلغاؤها تم إعدام مئتين وخمسين، ونحن أمام هذه الحقيقة، نهيب بالشعب الإسباني، صاحب الضمير الإنساني، أن يتذكر تلك المصائب، كلما شاهد، أو قرأ عن ذلك التراث العظيم.

«إني أدين»

وكان صاحب السمو حاكم الشارقة، أصدر كتاباً بحثياً مهماً بعنوان «إني أدين» الذي يأخذك من الأسطر الأولى إلى معاني حقيقية مقترنة بالوثائق والأدلة للإدانة، مقدماً شهادة مختلفة ومتميزة، في ظل شح المصادر التاريخية التي تتحدث عن مأساة المسلمين الموريسكيين بعد سقوط غرناطة، والجرائم التي مورست في حقهم.
وفي هذا الكتاب يقدم سموه شيئين مهمين بالنسبة لموضوع الكتاب، أولهما مادة تاريخية موثقة عن موضوع انتهاك حقوق المسلمين بعد الاستيلاء الإسباني على غرناطة، وسقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية هناك، وثانيهما هو وثيقة قانونية مدعمة تكفي لمحاكمة من يجرؤون حتى الآن من الإسبان على غمط الموريسكيين المسلمين حقوقهم، ويرفضون حتى الاعتذار لهم عن كل الجرائم البشعة التي وقعت ضدهم. وفي مئتي صفحة من القطع الكبير، وبأسلوب علمي تاريخي ممنهج ومصحوب بصور الوثائق الإسبانية الأصلية مع ترجماتها العربية، يطرح سموه عشر إدانات، اعتمدت على عشر وثائق إسبانية، يقول سموه في مقدمة كتابه عنها: «اقتنيت عدداً من الوثائق الإسبانية، وهي تعود إلى الفترة ما بين 1530م، وعام 1610 م، وهي فترة مأساة مسلمي الأندلس، وبعد ترجمتها من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية ودراستها، اخترت منها 10 وثائق تدين فئات من الشعب الإسباني في تلك الفترة، أكان ملكاً، أو قاضياً، أو كنيسة، أو جماعة من الناس؛ لما قاموا به من جرم تجاه مسلمي الأندلس بعد أن هادنوهم فترة من الزمن، بعد توقيع الملكين الكاثوليكيين لأبي عبد الله الصغير بالتعهدات بعدم المساس بالمسلمين في عبادتهم وأملاكهم»..

وأكدت منشورات القاسمي أنها ومنذ إشهارها حرصت على أن يعود ريع جميع مطبوعاتها لأهداف إنسانية، ومن بين أبرز الجهات والمؤسسات المستفيدة من هذا الدعم الإنساني مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية التي تتبنى مشاريع رائدة في تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة والمعاقين والمساهمة في صهرهم ضمن فئات المجتمع.