أكد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أنَّ القيمة الحقيقية للمواقع التاريخية ليست قيمةً ماديةً، بل قيمةً ثقافيةً وإنسانيةً بالأساس؛ قيمةً تمنح الإنسان القدرة على فهم مساره الطويل فوق هذه الأرض، وتربط الحاضرَ بجذوره الأولى.
جاء ذلك خلال كلمة ألقاها سموه، مساء يوم أمس الاثنين، بحضور سمو الشيخ سلطان بن أحمد بن سلطان القاسمي، نائب حاكم الشارقة، وسمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، سفيرة موقع الفاية للتراث العالمي، في الحفل الرسمي لإدراج «الفاية» على قائمة التراث العالمي لليونسكو.
وقال سموه: «نقف هنا أمام صفحات حيّة من كتاب الإنسان، كتاب يُخبرنا عن الإنسان كيف عاش، وكيف واجه بيئته، وكيف حوّل التحديات إلى معرفة وصبر وبناء وحكمة، وكيف جعل من الخبرة أسلوبًا لحياته، وكيف صنع من التجربة وعياً يتراكم جيلاً بعد جيل».
وتناول صاحب السمو حاكم الشارقة قيمة المواقع التاريخية، قائلاً: «لعل من بداهة القول: إن القيمة الحقيقية للمواقع التاريخية ليست قيمة مادية، بل قيمة ثقافية وإنسانية بالأساس، قيمة تمنح الإنسان القدرة على فهم مساره الطويل فوق هذه الأرض، وتربط الحاضر بجذوره الأولى، حتى لا يصبح المستقبل منفصلاً عن ذاكرته أو جذوره، فكل موقع تراثي هو مدرسة مفتوحة للأجيال».
وأضاف سموه: «حين نمنح هذه المواقع ما تستحقه من دراسة وحماية، فإننا لا نحفظ حجرًا ولا أثرًا فحسب، بل نحفظ علمًا متراكمًا، وخبرة إنسانية ممتدة، ونُعين الأجيال على بناء فهم أعمق لهويتها، ولدورها في الحاضر والمستقبل، ولأن ما نحافظ عليه اليوم، يحمي هويتنا غدًا».
وتحدث صاحب السمو حاكم الشارقة عن جهود إمارة الشارقة في دعم المشاريع الثقافية، قائلاً: «من هنا، يحتل التراث موقعاً مركزياً في المشروع الثقافي لإمارة الشارقة، لأن التراث يمنح الثقافة جذورها التي تستند إليها، وكذلك يضعها في السياق الذي تتشكل من خلاله الصورة المتكاملة للإنسان والمجتمعات في هذه المنطقة، يكشف البحث التاريخي في الفاية تاريخ الإنسان، وهو يتعلم معنى الجماعة، ويؤسس للتعاون، ويُنظّم العمل، ويقسم الموارد، وهذه المقومات كلها تُشكّل الركائز الأساسية للبنية الاجتماعية التي امتد أثرها إلى العصور اللاحقة».
وتطرق سموه إلى جهود الباحثين العاملين على أعمال التنقيب، قائلاً: «من بين ما تكشفه الفاية، خطة فارقة غيرت فهم العالم لمسيرة الإنسان، فعندما بدأت أعمال التنقيب الحديثة، لم يكن الباحثون يتوقعون أن الفاية ستكسر واحدة من أقدم المسلّمات العلمية حول هجرة الإنسان، لكن الأرض قالت كلمتها، والأرض لا تكذب، حين تنطق بالعلم، فقد ظهرت أدوات حجرية دقيقة الصنع، وبعد تحليلها تبين أن عُمرها يتجاوز مئتي ألف عام، في تلك اللحظة أدرك العلماء أنهم يقفون أمام شهادة تاريخية تقول: إن الإنسان الحديث كان هنا، على هذه الأرض، قبل زمن أبعد بكثير مما كان يُعتقد».
وأضاف صاحب السمو حاكم الشارقة: «لقد قدمت الفاية خريطة جديدة وموثقة للهجرة البشرية ومساراتها، وأثبتت أن الجزيرة العربية لم تكن ممر عبور، بل موطناً مبكراً في رحلة الإنسان من إفريقيا إلى العالم، ومسكناً للاستقرار والعيش، وهكذا لا تعود الفاية موقعاً محلياً في ذاكرة المكان، بل محطة مركزية في ذاكرة الإنسانية جمعاء، ومن هذا المكان، فإننا لا ننظر إلى إدراج الفاية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي بوصفه إقراراً بتاريخ هذه المنطقة، فالتاريخ يُقرّ ذاته بذاته، وليس لنا فيه فضل، وإن كان له علينا الكثير من الواجبات، وفي مُقدّمتها الوفاء والصون، وننظر إلى هذا الإدراج بوصفه هدية جديدة تقدمها هذه المنطقة للبشرية، كما قدّمت عبر تاريخها لها أوّل الزراعة، وأول التجارة، وأول شبكات الطرق، وأولى النُظم الإدارية، وأبكر الهياكل المدنية والاجتماعية، بهذا الإدراج، أصبحت البشرية تمتلك نافذة جديدة تُطل منها على ماضي هذه المنطقة، لتتعلم وتسترشد بتجارب من سبقونا».
وتناول سموه البعد الإنساني للفاية، قائلاً: «من خلال قراءة هذه الشواهد، تتضح حقيقة أن المعرفة ليست ماضية فقط، بل هي معرفة صالحة لكل العصور، لأن الإنسان، رغم تحولات الزمن، ما زال يواجه التحديات الكبرى نفسها في السعي إلى التكيف واستدامة الموارد وحُسن إدارتها، في البعد الإنساني للفاية، نقرأ حقيقة جوهرية، أن الحضارات لا تنمو في العزلة، بل تتشكل من خلال التواصل، ومن خلال شبكات واسعة تبني مسارها الحضاري بعدالة وتكافؤ، هكذا نقرأ الفاية، وهكذا نفهم التراث في إمارة الشارقة، فنحن نرى أن الاستثمار في حماية هذه المواقع لا يقل أهمية عن الاستثمار في البنية الاقتصادية والعلمية وبناء الإنسان، فالتراث ليس استدعاءً للماضي، إنه تأسيس للمستقبل».
واختتم سموه كلمته موجهاً الشكر والتقدير إلى سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي على ما بذلته من جهد كبير في قيادة هذا الملف، مثمناً سموه الدور الذي قامت به هيئة الشارقة للآثار، وجميع الشركاء والباحثين والمتخصصين الذين أسهموا في تحقيق هذا الإنجاز.