في المشهد الثقافي العربي المعاصر، بل والعالمي، يبرز اسم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، بوصفه من أكثر الشخصيات تأثيراً في صياغة نموذج حضاري متكامل، يجعل من التراث محوراً للفعل السياسي، والرؤية الفكرية، والنهوض الإنساني، فمنذ توليه مقاليد الحكم في إمارة الشارقة عام 1972، لم يكن مشروع سموه مقتصراً على التنمية العمرانية أو الاقتصادية بالمعنى التقليدي، بل شكّل في جوهره فلسفة حضارية تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الماضي والمستقبل، وبين الهوية والحداثة.
لقد أدرك سموه منذ أول إنجازاته في السجل الحافل الكبير، أن التراث هو منظومة معرفية متجددة، ومصدر أخلاقي وجمالي، وأداة للمقاومة والبناء في آنٍ معاً. لقد حمل سموه على عاتقه مسؤولية «تحرير الذاكرة»، كما يقول بول ريكور، من الجمود، وتحويلها إلى طاقة للتجديد المجتمعي والثقافي، وهو ما تجسّد في عشرات المشاريع والمبادرات التي أطلقها على مدى عقود، والتي تعد اليوم مرجعاً في فلسفة استثمار التراث كقوة فاعلة في تشكيل الحاضر واستشراف المستقبل.
واحدة من أبرز سمات «التجربة الفلسفية القاسمية» في إدارة الشأن الثقافي، هي القدرة على تحويل الرؤية الفلسفية إلى بنى مؤسساتية مستدامة، فالتراث في مشروع سموه لا يظل في حدود الخطاب، بل يترجم إلى مؤسسات، ومتاحف، ومراكز بحث، ومهرجانات، وقوانين وتشريعات ومشاركة مجتمعية فاعلة.
ويكفي أن ننظر إلى مشروعات مثل «معهد الشارقة للتراث»، الذي أثبت مكانته الثقافية العالمية، أو مثل «بيت الحكمة»، أو «مؤسسة الشارقة للوثائق والبحوث»، لندرك عمق هذا التصور، ففي كل هذه المؤسسات يحضر التراث بوصفه «منظومة حية» تنبض بالحوار والتأويل والإبداع.
ويمكن أن نربط هذا المسار الفلسفي بنظرية «الذاكرة الثقافية» التي طوّرتها أليدا أسمان، التي ترى أن المجتمعات تعيد إنتاج هويتها من خلال تأويل مستمر لتراثها، وهذا بالضبط ما يمارسه «الدكتور المفكر سلطان: تحويل الذاكرة من سردية مغلقة إلى مشروع معرفي مفتوح»، تشارك فيه المؤسسات التعليمية، والفاعلون الثقافيون، والمجتمع بأكمله.
كان لي الشرف، على مدار عقود، بالمشاركة في العديد من المبادرات والجوائز والمشاريع والأعمال المؤسسية التي انطلقت من فكر ورؤى ومتابعة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وكنت شاهدة مطلعة وباحثة درست هذه الأعمال الثقافية الفريدة عن كثب، ورأيت بأم عيني التأثير الإيجابي العميق لجميع هذه المبادرات في المجتمع الإماراتي وبنيته الثقافية والحضارية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر المواطن الإماراتي والمقيم المشروع المبهر: «ثقافة بلا حدود»، الذي وُزعت من خلاله مئات الآلاف من المكتبات المنزلية على الأسر الإماراتية، وهي مبادرة نوعية تهدف إلى دمقرطة الثقافة، وتحريرها من احتكار النخبة، فلمسنا تطبيقاً حياً لما يسميه بيير بورديو بـ«رأس المال الثقافي»، حيث يصبح الوصول إلى المعرفة أحد شروط العدالة الاجتماعية والتمكين الإنساني.
أولى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي اهتماماً خاصاً بالحرف التقليدية والفنون الشعبية، وبجميع عناصر التراث الإماراتي المادي وغير المادي، حيث أعاد إحياء العديد من الصناعات الشعبية مثل السدو، والغزل، والخوص، وغيرها، وتم تقديمها في معارض معاصرة، ودُعمت من خلال منصات تسويقية حرفية وفنية، ما منحها حياة جديدة، وأعاد لها مكانتها في الاقتصاد الثقافي الحديث. ويعد هذا التطبيق العملي لما يسميه البعض بـ«التراث المنتج»، حيث يُنظر للتراث بوصفه مصدراً للإبداع والابتكار الاقتصادي.
كذلك تشكل العمارة أحد أبرز تجليات «الفلسفة القاسمية الثقافية» بإعادة إنتاج صور من التراث، من خلال تصميم المدن بحيث تكون مرايا لهويتها، فقد جرى ترميم الأسواق القديمة، والحصون، والمنازل التاريخية، بأسلوب يحافظ على الروح الأصلية، ويُدخل في الوقت ذاته عناصر الاستدامة والوظائف الحديثة. وقد نالت الشارقة لقب «المدينة المبدعة» من اليونسكو في مجال الحرف والفنون الشعبية، تأكيداً على هذا التوازن بين الأصالة والتجديد.
إن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي يُمثل حقاً نموذجاً فلسفياً للحكم الثقافي الأخلاقي، فهو يؤمن بأن التراث «رؤية»، و«طاقة»، و«مسؤولية»، ففي كتابه «سرد الذات»، وغيره من مؤلفاته، نراه يُعيد بناء الرواية الوطنية من الداخل، ويمنحها صوتاً يخاطب الداخل والخارج بلغة العقل والكرامة، ويقدم نموذجاً تطبيقياً رفيعاً، يحول الفكرة إلى مؤسسات، والرمز إلى مبادرة، والهوية إلى مستقبل، وتجسّد تجربته تجلياً متكاملاً لنظرية «التراث كفعل حضاري»، حيث يُفهم التراث كمجال معرفي وعملي يسهم في تشكيل السياسات العامة، والتعليم، والاقتصاد، والدبلوماسية. فهل من مثال أصدق على «الفيلسوف المفكر الحاكم» من سلطان الشارقة؟ وهل من مسار أنبل من رؤية سموه بتكريم التراث وحفظه وصونه وتجديده، ورفع صوت الهوية الثقافية بما يحفز المجتمعات ويدفعها للنمو الثقافي المتوازن؟
المصدر: جريدة البيان - د.موزة غباش