يواصل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة مشروعه الأدبي القائم على التاريخ سواء في المسرح أو في الرواية أو في السيرة، معتمداً سموه على الوثيقة والبحث عنها مهما كلفه ذلك من جهد ووقت ومال، سعياً إلى كتابة الحقيقة بعيدا عن الالتباس والظن والشك، وفي كل مؤلف لسموه نعود دائماً إلى رؤيته في قراءة التاريخ عندما يؤكد دائماً أنه في مثل هذه القراءة يترتب علينا أن نستفيد مما نقرأ.. نستفيد من الوثيقة والمراجع الموثقة.
المادة السردية، أو السيرية، أو المسرحية أو البحثية عند صاحب السمو حاكم الشارقة يجب أن تكون موصولة بالحقائق التاريخية التي يجري توظيفها في الكتابة، وسموه قال إن البحث عن هذه الحقائق دفعه إلى زيادة مراكز ثقافية ومكتبات عالمية، ومطالعة المخطوطات التي وثق بها المؤرخون مشاهداتهم، وسموه كما قال في معرض فرانكفورت للكتاب لم يركن للظاهر «.. لأن الحقائق التي يسهل الحصول عليها، قد تكون هشة ولا تشبع شغف الباحثين عن الحقائق والمؤلفين الملتزمين..».
من هنا ندرك جيداً ضرورة أن يعود صاحب السمو حاكم الشارقة إلى اكثر من 35 مرجعاً تاريخياً يستفيد منها في كتابة روايته الجديدة «بيبي فاطمة وأبناء الملك»، وهي كما جاء في تقديم سموه للرواية.. «.. تحكي قصة امرأة طموحة، تتشبث بحكم ملوك هرمز الزائل في ظل الاحتلال البرتغالي لمملكة هرمز..».
يمكن إدراج هذه الرواية التي جاءت في 123 صفحة من القطع المتوسط في الجنس الأدبي المعروف عالمياً وهو «النوفيلا» وهي تصنف من حيث الحجم قصة طويلة ورواية قصيرة، ومع ذلك احتاجت من سموه إلى 35 مرجعاً تاريخياً، وفي هذه الحال نحن نقرأ تاريخاً في قالب روائي «سهل ممتنع»، وبلغة صافية، وتتبع زمني ومكاني للشخصيات التي تقوم عليها الرواية وهم ملوك وأمراء وقادة عسكريون وحكام نافذون يحكمون من وراء القارات، ويأتي أمرهم النافذ إلى مدينة هرمز في العام 1588.
شخصية تراجيدية
قامت الرواية على حياة ملك وثلاثة أمراء هم أبناؤه، وفي وسط هذه البيئة الحاكمة تأتي شخصية فاطمة.. فاطمة التي هي في البداية حبيبة نور الدين، وهي «حبيبة فاطمة»، وهي بيبي فاطمة، ولكن هذه المرأة التراجيدية التي تتنصّر أو تدخل الدين المسيحي لكي تتخلص من زواج لا تريده.. هذه المرأة هي في النهاية: مطلقة فيروز شاه، وأرملة توران شاه، وزوجة محمد شاه.. كأن قدرها جعل لها ثلاثة أسماء، وجعل لها قدرها أيضاً ثلاثة مصاير.
في الفصل الأول نتعرف إلى تحديد مكان الرواية جغرافياً.. إنها هرمز عند مدخل الخليج العربي، واسمها القديم «جيرون»، ويحدد المؤلف حتى خط العرض الذي تقع عليه هذه المملكة التي خضعت لنفوذ البرتغاليين، لتخضع، تالياً، إلى نفوذ الإنجليز والفرس.
نعرف من الرواية - طبيعة هرمز- التعددية السكانية: مدينة مسلمين، ومسيحيين، ويهود، ووثنيين و«كلهم مستقلون بمعتقداتهم، ومع ذلك فهم يتزاورون، ويتحدثون بلا قيود..» وتخبرنا الرواية عن هرمز، يوجد على الجزيرة العديد من كنائس المسيحيين، ومساجد المسلمين.. من بينها المسجد الكبير بمئذنته الكبيرة الملفتة للنظر، وكنيس لليهود...، وهرمز أيضاً مدينة الحرير والمخمل والبورسلين، والصفيح، والسكر، والنيلة وحب الهال، والفلفل وغير ذلك من أعشاب وفاكهة، وباختصار يحدد صاحب السمو حاكم الشارقة الطبيعة السكانية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية لهرمز كي نقرأ بعد ذلك تفاصيل أخرى، نربطها وجدانياً ونفسياً بالأحداث التالية في الرواية.
أكثر من ذلك يعرفنا سموه حتى على العملات التي كانت مستعملة في جميع المناطق التابعة لمملكة هرمز: لاري، ريس، كروزادو، باردو، أما حال أهل هرمز.. فـ..«ملحهم من الجبل، وحطبهم من البحر، وأحجارهم تطفو على الماء..» وهذا ليس لغزاً، بل هي الحقيقة: «أحجار البناء تجلب من جزيرة قشم، حيث تستخرج أحجار المرجان من قاع البحر، وتجفف فتصبح اسفنجية فيها جيوب مملوءة بالهواء، مما يجعلها تطفو على الماء..».
الصراع على السلطة
الفصل الثاني «الملك فروغ شاه» وهنا نتعرف إلى بدايات التنصير التي قام بها البرتغاليون في هرمز لأغراض سياسية واجتماعية ودينية جميعها انتهازية، ونتعرف إلى بدايات الصراع على السلطة حيث يبعد الملك فروغ شاه عمه الشيخ جاويد عن الحكم، ويأخذ هذا الأخير بالمطالبة بالحكم «لدى السلطات البرتغالية، وكذلك يطالب بميراثه، فما كان من الملك فروغ شاه إلا أن هدده بالقتل، ورفض أن يدفع له أي مبلغ، مدعياً أن المبالغ التي يذكرها الشيخ جاويد هي ليست ملك والده، وانما هي من ممتلكات الدولة..» في هذا الفصل من الرواية تظهر شبكة من الزيجات كما لو كانت تمهد إلى تفاصيل أخرى من الرواية، وكل هذه التفاصيل، مرة ثانية، مبنية على التاريخ وحقائقه ووثائقه، حيث يمتزج التاريخ هنا بالسرد في إطار جاذب من السرد الموجز المكثف.
لقد أوكلت مهمة إدخال شباب هرمز إلى الدين المسيحي إلى قائد وحاكم هرمز ويدعى «ماتياس دي البوكيرك»، «.. كان دائما ما يدخلهم إلى منزله ويقدم لهم الطعام، وكان نشاطه اليومي ليس إدارة الجزيرة، وانما مهمة أخرى تشغله، وهي تحويل المسلمين إلى الديانة المسيحية..». وممن تنصر امرأة تدعى حليمة تموت على ظهر سفينة، فيلقى بجثمانها في البحر لتأكله الأسماك.
في الفصل الثالث تبدأ قصة لطيفة (سيدة النساء)، زوجة الملك فروغ شاه وأخت الوزير ريس نورالدين.. أم فاطمة، و«سيدة النساء» هذه.. «.. تربعت على العرش، وابنتها فاطمة بالقرب منها، وقد اتخذت لنفسها مجلساً، ووضعت على رأسها تاجاً، ولبست أثمن الملابس وأجملها، وجلست على كرسي كأنه العرش، واستقبلت سيدات المجتمع الهرمزي، وزوار جزيرة هرمز، وكانت تصرف الأموال من دخل جمارك هرمز..».
في هذه البيئة تكبر فاطمة، ومن أسمائها الثلاثة سميت ب«بيبي فاطمة».. كانت تلبس تاج والدتها، وكان ابن عمتها محمد شاه يلبس تاج والده.
يتنازل الملك فروغ شاه عن السلطة ويتسلمها ولده فيروز شاه.
حياة متقلبة
تبدأ قصة «بيبي فاطمة» فعلياً، وعلى مستوى، درامي منذ أن تزوجها فيروز شاه، ولكن قبل ذلك كان أخوه محمد شاه قد طلب الزواج منها.. «.. تم زواج فاطمة بابن ملك هرمز فيروز شاه، وكان من المتوقع أن يخلف هذا الابن أباه كملك، وكان ابن أمه، وهذا يعطي الابن حقوقاً خاصة بين هؤلاء الأخوة، لأنهم بهذه الطريقة يمتلكون، بصورة غريبة شيئاً ما، الذي هو حقهم الخاص، ألا وهو ملك والدته، لأن والده لم يعتقها».
يطلب فيروز شاه الدخول بالسيدة بيبي فاطمة لكنها تماطل وتدعي المرض، وأخيراً، لتهرب من هذا الوضع تدعي التنصر، وعلى نحو ما يجري اختطافها لتبحر بها سفينة إلى غوا في الهند.
لكن هنا علينا أن نشير إلى مشهدين يبدوان متقابلين في الرواية.
المشهد الأول عندما أمر القائد العسكري بيبي فاطمة إن كان قد تم إقناعها بواسطة الخداع، أوأجبرت على تغيير عقيدتها.. فتقول: «لم أتأثر بالخداع والقوة، ولكني رغبت أن اترك الدين الإسلامي، واعتنق المسيحية..».
ولكن هذه المرأة نفسها - بيبي فاطمة - عندما دارت بها الأيام، وتزوجت من توران شاه ابن الملك فروغ شاه، وجرى إعدامه بإبرام النار فيه.. هذه المرأة «التي دخلت الدين المسيحي» وهي في ذروة مأساتها وحزنها على زوجها تخاطب الحشود حولها من الناس وهي تجر أولادها بيد، وباليد الأخرى ترفع مصحفاً، وبصرها إلى السماء، وهي تدعو ربها قائلة:
«إلهي.. أنا بيبي فاطمة، حفيدة رسولك إلهي بحق رسولك الكريم.. أن تزلزل أقدامهم وتحطم جيوشهم».
في الفصل الأخير.. يصل الأمير محمد شاه إلى جزيرة هرمز ومعه ابن اخيه الأمير محمد شاه بن توران شاه (ابن بيبي فاطمة)، ويتوج الأمير محمد شاه ملكاً على ممالك هرمز، وتعود فاطمة من غربتها إلى هرمز، وهذه المرة ملكة متوجة وقد تزوجت محمد شاه، ولكن ملك البرتغال يغضب غضباً شديداً على تعيين الأمير محمد شاه ملكاً على هرمز، وفي هذا الوضع الهرمزي ينشغل الناس بالحرب مع فارس، وتالياً يجري التحالف بين الإنجليز والفرس.. «على تخليص أرض فارس من الاحتلال البرتغالي..».
تقوم السفن الانجليزية بانزال قواتها على أرض جزيرة هرمز بدون مقاومة تذكر.. «أما المسيحيون، فقد تم تسليمهم للبريطانيين» كما جرى تسليم المسلمين من أهالي هرمز للقوات الفارسية.
مستويات متعددة للقراءة
هذه موجزات من الرواية على شكل عرض محدد عند مشاهد بعينها، والرواية تقرأ في مستوى تاريخي ومستوى روائي، ويمكن الخروج بنقاط تالية أراها - اجتهاداً - نتاج قراءة تتصل بأسلوب صاحب السمو حاكم الشارقة ومعالجته لمضامين خطابه الأدبي بتسلسل وعمق ورؤية ثقافية تاريخية، إنسانية، وجمالية.
أضع بعد هذه القراءة النقاط التالية:
أولاً: لعب الاستعمار البرتغالي في المنطقة دوراً تبشيرياً بالدين المسيحي، ومن وسائله الجهنمية في النفوذ والسيطرة إذكاء الصراع على السلطة في البيت الواحد، ثم، تغذية هذا الصراع من بعيد سواء بالمصالح أو الترغيب أو الترهيب.
ثانياً: صحيح جرت مراجعة محاكمة الأمير توران شاه وأعيد الاعتبار لأبنائه وإسقاط الخزي والعار عنهم، ولكن جرى كل ذلك بعد أن تم تنفيذ حكم الإعدام بالأمير حرقاً بالنار، وهو حكم كان وراءه قس مسيحي، فما ينفع كل صكوك إعادة الاعتبار هذه، وقد تحول الأمير إلى رماد مخبأ في خمار زوجته.
ثالثاً: يبقى صاحب السمو حاكم الشارقة كاتباً مسرحياً مشدوداً إلى تقنية الحوار، مثل ذلك الحوار الأقرب إلى المسرحي الذي جرى بين فيروز شاه، وريس بدر الدين في الصفحات 55، 56، 57، من الرواية، ويبقى سموه كاتباً مسرحياً مشدوداً أيضاً إلى تقنية مسرحية ثانية تتمثل فيما يمكن تسميته «التهيئة» للمشهد المسرحي.. وهنا أمثلة على ذلك:
مشهد 1:
أ- يدخل إلى المجلس ذلك الشاب، بهندامه غير المرتب، ولحيته الكثيفة، ووجهه المخيف، إنه نعمة الله، ابن شقيق الملك.
مشهد 2:
ب- إلى اليمين من مقعد الملك، كان يجلس ريس نور الدين وزيره، وبجانبه جلس أخوه شرف الدين، وهو المساعد له، ويحل مكانه في غيابه.
مشهد 3:
ج- تُشاهد بيبي فاطمة يومياً تجلس بالقرب من باب السجن، ومعها اثنان من أبنائها، أما ابنها الكبير، الأمير محمد شاه ابن توران شاه، وقائد قوات الملك فلا تعرف عنه شيئاً، إلا إنه كان يعيش في أراضي بلاد العرب خاضعاً للملك.
وبمعنى آخر، يسهل مسرحة هذه الرواية، وتحويلها إلى عرض تاريخي على الخشبة لما في الرواية من عناصر مسرحية هي أصلاً من طبيعة قلم صاحب السمو حاكم الشارقة.
رابعاً: هناك مشهدان في الرواية يُحيلان إلى ما يمكن تسميته الموت الغامض، موت حليمة مراد التي تحول اسمها إلى"فيليبيا» بعدما تنصرت وهي على ظهر سفينة متجهة إلى هرمز «فالقي جثمانها في البحر لتأكله الأسماك»، والموت الثاني هو موت «ديلمتشي» الذي كان مبحراً من لشبونة إلى الهند.. «.. حتى إذا ما وصل بالقرب من رأس الرجاء الصالح، مات هناك، وألقي جثمانه في البحر لتأكله الأسماك».
خامساً: نعرف من الرواية تفاصيل السلطة: المراسلات مثلاً بين الملوك وذوي الأمر، ولغة هذه المراسلات.
مشهد لافت
في داخل قصة بيبي فاطمة ثمة قصة أخرى دالة على الصراع الذي ينتقل من ردهات القصور إلى ساحات الأسواق العامة.. وللقارئ أقدم هذا المشهد كاملاً من الرواية:
ردت إحدى خادمات بنات ريس شرف قائلة لصاحب المحل:
«هل تعرف سيدة النساء وولدها وبنتها وبنتها الأخرى؟».
فلم تجد خادمات الملكة بيبي فاطمة إلا الانسحاب من السوق، والهرولة إلى القصر، حيث أخبرن الملكة بيبي فاطمة عما جرى، وزدن وأعدن فغضبت بيبي فاطمة وتوعدت.
في اليوم التالي، بعثت الملكة بيبي فاطمة بخادماتها إلى السوق في مهمة خاصة.
وفي السوق، عندما التقت خادمات الملكة بيبي فاطمة بخادمات بنات ريس شرف الدين، هجمن على الخادمة من خادمات ريس شرف الدين، والتي تلفظت بالكلام على سيدة النساء وأولادها، وطرحتها أرضاً، فكادت أن تموت لولا تدخل من كان بالسوق، وشوهن وجوه الأخريات من خدم بنات ريس شرف الدين.
كان خدم الملكة بيبي فاطمة في سوق هرمز المزدحم بالناس، وإذا بخدم بنات شرف الدين، وخدم أولاد الملك السابق فيروز شاه، يلتقون عند أحد الباعة.
ويختلف الخدم على من يشتري أولاً، فقالت إحدى خادمات الملكة بيبي فاطمة لصاحب المحل:
«لمن تريد أن تبيع؟ نحن الملوك، وهؤلاء العبيد!».
وكانت تقصد أنهن تابعات للملكة بيبي فاطمة، أما الأخريات تابعات أبناء فيروز شاه ابن العبدة.
ردت إحدى خادمات بنات ريس شرف، قائلة: «لمن تريد أن تبيع، نحن المسلمون، وهؤلاء نصارى».
صاحب المحل مندهشاً:
«من النصاري؟!»
المصدر: جريدة الخليج – يوسف أبولوز