حكايات في صور

عرض الكل

«تاريخ القواسم».. سلطان يوثق سيرة المجد

يسجل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، مكانته الفريدة بروحه الباحثة ووعيه التاريخي البصير، وإيمانه الراسخ بأن كتابة التاريخ إنما هي مسؤولية كبرى جامعة وطنية وإنسانية على حد سواء، وها هو يصدر موسوعته الثمينة «تاريخ القواسم» في خمسة أجزاء، وهو إنجاز ثقافي وتاريخي يستقطب اهتمام كل من يتطلع إلى غوامض الماضي على امتداد المكتبات التاريخية العالمية، ليصبح مرجعاً في الدراسات التاريخية.

نقف اليوم في قراءة أمام هذا العمل الضخم، الذي رفع من شأن الجمع التاريخي للأحداث والمرويات، فارتقى إلى مرتبة عليا تستنطق الوثائق والمراجع، لتعيد إلى ذاكرة الأمة مسار أسرة القواسم، من حيث مركزية حضورها وتأثيرها في تاريخ الخليج والعالم العربي عبر عصور مديدة، يتجلى جهد استثنائي في التوثيق والتحقيق في صفحات هذا الكتاب العميقة والمديدة، ينسج سموه من خلالها رابطاً محكماً بين ماضي الأجداد وحاضر الأجيال، كاشفاً كيف أن الإرث التاريخي هو دعامة لا غنى عنها لتأسيس مستقبل الأمم ورفعتها.

لا غرو أن يكون صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي قد خاض غمار هذا المشروع الفكري والأكاديمي بشغف قل نظيره، إذ كان مكتشفاً التاريخ منذ بواكير شبابه، وهذا ما نلمسه من شغفه الفريد بالمخطوطات وولعه بتفقد الأرشيفات العالمية، ساعياً وراء الوثائق الأصلية التي ترسم الصورة التاريخية بوضوح بعيداً كل البعد عن الروايات المتسرعة أو المغرضة، ومن هنا، تعكس موسوعة «تاريخ القواسم» نفس المؤرخ الباحث الصادق المتواضع، الذي يعلي مكانة العلم والإنصاف.

يستهل صاحب السمو حاكم الشارقة موسوعته التاريخية بأسلوب يليق بمقام المؤرخ الذي لا يكتفي بسرد الأحداث، وإنما يرتقي بالكتابة إلى فضاء من الدقة والتحري، إذ يولي عنايته لمسارات التاريخ والخطابات المتشابكة التي صنعت مجد القواسم ونقشت حضورهم على ضفاف الخليج العربي، ويحرص سموه على استخلاص جوهر الوقائع من أرشيفات شتى، فيقرأ قبل كل شيء ما أغفلته الأقلام الأجنبية التي كتبت تاريخ المنطقة، ويضع الأمور في نصابها، رافضاً كلياً الاستسهال أو الانجرار خلف روايات اعتراها التحيز أو سوء الفهم، ولعل الإشارة المتكررة إلى شخصيات مثل جون مالكولم ولوريمر ووليام بروس تمثل محطة بحثية تكشف عن مدى التداخل بين السرد المحلي والمرويات الغربية، وكيف استطاع سموه أن يفضح التناقضات ويعيد تقديم القواسم بصورتهم الحقيقية، بعيداً عن نمطية الخطابات الاستعمارية الجاهزة.

يحمل هذا الكتاب عبء الإجابة عن أسئلة مصيرية تتعلق بالجذور الأولى، وأسباب تموضع القواسم في قلب الأحداث العظمى التي شهدتها المنطقة، ويكتشف القارئ عبر الصفحات حرص سموه على رسم صورة بانورامية تعرض رجالات القواسم بحكمتهم وحنكتهم، كما يبرز القلق المستمر للباحث في التاريخ تجاه العدالة التاريخية، الأمر الذي دفعه إلى استقصاء أعمق المرويات بين النظر المحلي والوثيقة الأجنبية، وتظهر المنهجية التساؤلية عند سموه واضحة في طريقة عرض الأحداث وتفكيك الروايات، حيث يضيء بسرده جوانب طواها الإهمال وأحاطها الضباب، ليحيلها إلى حقائق واضحة وموثقة بأدلة نقلية وعقلية.

وهنا، يندمج السرد الأدبي مع روح التحقيق العلمي، فتغدو كل جزئية في الكتاب استعادة واعية لهوية المكان وتاريخ الإنسان العربي في الخليج، ويمنح سموه القارئ متعة الكشف عن تفاصيل دقيقة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ويعيد رسم أدوات السلطة ومنظومات المجد، بلا انحياز أو خطاب مكرور، وبين طيات صفحات هذه الموسوعة ترتسم حكاية شعب كان قدره أن يكون في مواجهة أطماع القوى الاستعمارية، فشيد دولته على العزة والوفاء وإرادة الحرية.

إن هذا الكتاب لا يراد له أن يكون موسوعة أكاديمية للباحثين في التاريخ فقط، وإنما هو موجه بأن يكون زاداً لكل قارئ حر، ولكل مهموم بتاريخ الأمة، ليصله صوت الباحث الأمين وهو يكتب التاريخ عن قناعة بأن حفظ الذاكرة التاريخية هو واجب المثقف وصانع القرار على السواء.

دور محـــــــــوري

يبرز في هذه الموسوعة التاريخية الدور المحوري الذي لعبته أسرة القواسم، تلك الأسرة التي جسدت حضوراً سياسياً مهماً في مياه الخليج العربي والجزيرة العربية، إذ إنه ومنذ القرن الثامن عشر، كانت للقواسم اليد الطولى في حراسة طرق التجارة البحرية، ومواجهة القوى الإقليمية والدولية التي سعت لطوي صفحة الاستقلال، وفرض الهيمنة على الخليج، وتقف الأجزاء الخمسة شاهدة على التحول الذي طرأ على القواسم، من قوة محلية ضاربة إلى لاعب رئيسي مؤثر في المعادلات الدولية، لا سيما مع صعود القوى الاستعمارية الأوروبية ومحاولاتها المتكررة للاستحواذ على البحار والممرات الاستراتيجية.

إن ما يميز المشروع التأريخي لصاحب السمو حاكم الشارقة، هو المنهجية المحكمة القائمة على اعتماد وثائقي صارم، لا تكتفي بالروايات الشفوية فحسب، فقد استقى المؤلف من منابر المراجع المتنوعة، بما يشمل الأرشيفات البريطاني، والبرتغالي، والهندي، والعثماني، إلى جانب مجموعة نفيسة من المخطوطات العربية الأصيلة، وقد أضفى هذا المنهج العلمي مداخل عميقة تبحث عن الحقيقة، فبادر القارئ إلى الوقوف أمام تاريخ مدون حقيقي، وليس سرداً قصصياً للأحداث المتداولة، بل أكثر من ذلك، حين تأخذ منهجية التوثيق بمضامينها النقدية، إذ لا يكتفي سموه برصد النصوص نقلاً ولكنه في الحقيقة يحاورها ويفكك خطابها الاستعماري.

يسلط سموه الضوء بهذا المشروع الفكري، على تاريخ القواسم خلال الفترة الممتدة من 622م إلى عام 1825م، ليضيء مساحة بالغة الأهمية من تاريخ القواسم، ذلك التاريخ الذي تشكل في بيئة مضطربة تعاقبت عليها الأطماع الأجنبية والصراعات الإقليمية، فكان لا بد من التوقف عنده بوعي الباحث ودقة المؤرخ.

حنكــــة الباحـــث

يبرع صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في هذا الكتاب بتتبع نسب أسرة القواسم بدقة المؤرخ وحنكة الباحث، إذ يسرد سلسلة الأسماء التي توضح جذر العائلة الكريم، فيأتي منطلقاً من أعماق التاريخ ليكشف مسار الامتداد الزمني وسلسلة التوارث التي شكلت عصب القوة والشرعية السياسية للأسرة الحاكمة في الخليج.

وتظهر في صفحات الكتاب هذه الأسماء متتابعة ومكتملة لتؤكد أصالة النسب وصفاء العرق، وتمنح للبحث التاريخي قيمة مضافة حين يكون النسب مشهوداً وموثقاً وفق منهج علمي يراعي تفاصيل السلسلة وشخصياتها البارزة، بما يعكس اهتمام سموه بسرد الحقيقة التاريخية لا مجرد السرد المجرد، فيغدو النسب في الكتاب عنواناً للهوية وركناً من أركان البناء الحضاري للقواسم.

وعلى الرغم من أن الكتاب يضيء تاريخ القواسم باعتبارهم جزءاً من تاريخ الإمارات والخليج، فإن قيمته تتجاوز البعد المحلي، إذ إن هذا العمل يوثق لتجربة إنسانية في مقاومة الاستعمار، وفي حماية السيادة، وفي بناء مجد سياسي له احترامه بين الأمم، لذلك فإن القارئ العربي، بل والقارئ الغربي أيضاً، يجد فيه مادة غنية لفهم واحدة من التجارب التاريخية التي صاغت معادلات القوة في الشرق الأوسط.

ليس من المبالغة القول إن «تاريخ القواسم» يترك أثراً بارزاً في مجال الدراسات التاريخية، فهو يمثل إضافة إلى المكتبة العربية، ومرجعاً لا غنى عنه للباحثين في التاريخ البحري، والسياسة الإقليمية، والعلاقات الدولية في القرون الثلاثة الماضية، كما أنه علامة على وعي ناضج من حاكم مثقف، يرى أن السلطة ليست فقط إدارة يومية للحكم، وإنما أيضاً مسؤولية تجاه الذاكرة والهوية والتاريخ.

يستشعر القارئ وهو يتنقل في فصول الموسوعة أن وراء السطور مؤرخ أكاديمي يعيش الأحداث ويتنفسها، يضع في كل كلمة إحساساً بعظم مسؤولية البحث في التاريخ بكل حيادية، وهذه الروح الإنسانية هي التي منحت الكتاب القوة والتأثير.

امتــــــــــداد

عندما نتأمل هذا المشروع الثقافي التأريخي، ندرك أن رسالته أبعد من التوثيق، وإنه كتاب يريد للأجيال الناشئة أن تعرف أنها امتداد لبطولات وصراعات وتضحيات، وأنها وارثة لمجد باق، لذلك فإن «تاريخ القواسم» في الحقيقة مرجع يعود إليه القارئ في كل لحظة بحثاً عن الجذور والهوية، إذ نجد في العديد من الفصول في هذه الأجزاء ما يتعلق بعلاقة القواسم بالبحر، فالكتاب يظهر كيف أن البحر كان فضاء للسيادة والهوية، بالإضافة لكونه ممراً للتجارة وصيد اللؤلؤ، وقد سجل القواسم حضوراً مهيباً في أعالي البحار، وارتبط اسمهم بالقوة البحرية التي لم تنكسر بسهولة أمام القوى العظمى، هذه الصفحات تقدم للقارئ صورة عن بطولات وبأس رجال سطروا بفعلهم ملحمة دفاع عن الأرض والكرامة.

مــــوازين القــــــوى

بمقدمة محورية بعنوان «القواسم بين الأحلاف والحروب»، يضع سموه القارئ أمام صورة بانورامية لتشابك القوى وتعدد التحالفات التي خاضها القواسم في ساحل عمان والخليج العربي، ليتوضح لنا أن هذا الصراع لم يكن مجرد أحداث متفرقة، وإنما كان تعبيراً عن مسار سياسي وعسكري طويل، رسم ملامح الحضور القاسمي وأرسى جذوره في المنطقة.

ويفصل الكتاب بدايات استقرار القواسم في ساحل عمان، وهو استقرار لم يأت هادئاً ولا سهلاً، حيث تشكل وسط اضطرابات متواصلة فرضتها القوى الأجنبية الطامعة، وعلى رأسها البرتغاليون الذين سعوا للسيطرة على طرق التجارة البحرية ومفاصل النفوذ في الخليج.

ويبرز في هذا الكتاب اللحظات المفصلية في تاريخ القواسم حين عقدوا تحالفاً مع الفرس لمواجهة البرتغاليين، في مشهد يعكس المرونة السياسة آنذاك، إذ لم يترددوا في الانخراط بتحالفات متغيرة تفرضها موازين القوى، ما منحهم قدرة على البقاء والمقاومة، غير أن هذه السياسة سرعان ما دخلت في تعقيدات جديدة، حين وجد القواسم أنفسهم لاحقاً في صف العمانيين ضد الفرس أنفسهم.

ويكشف سموه النقاب عن صراع محكم النسج بين أطراف متعددة في منطقة الخليج العربي، حيث نسجت خيوط تلك المواجهات والصدامات العسكرية في غرف السياسة والمصالح الضيقة، وهنا تتجلى مهارة القواسم في التعامل مع واقع ملغوم بالتحالفات والانقلابات، ليقف القارئ أمام صفحة مشرقة من تاريخ القواسم، حين برزوا قادة لجيوش اليعاربة، والذي تجاوز قيمته بكونه موقع قيادة عسكرية، ليمثل تعبيراً عن ثقة القوى الشعبية بهم، وقدرتهم على إدارة الحروب بشجاعة وحنكة.

كما يكشف الكتاب عن أسرار وخفايا اتفاقيات إقليمية وضعت أسساً جديدة للتوازن السياسي في المنطقة، هنا تتضح بصيرة القواسم في إدراك أهمية بناء تحالفات استراتيجية تضمن الاستقرار وتجنب الانفراد في مواجهة الأخطار الخارجية.

يتناول الكتاب جانباً بالغ الأهمية يتجاوز السجال السياسي إلى البعد الفكري والديني، إذ يستعرض سموه علاقة القواسم بالتيارات الدينية التي سادت في تلك الحقبة، في وقفة تأملية يضيء فيها سموه تفاصيل دقيقة من مشهد تاريخي محوري، يعكس إدراكه العميق لأهمية لحظات التحول في التاريخ.

ولعل ما يميز هذا الكتاب غزارة مادته التاريخية، والروح التي صاغ بها سموه نصه التاريخي، وتبرز روح المؤرخ الذي يغوص في سردية الوقائع ودوافعها ويقرأ خلفياتها، ويربطها بالسياق الإنساني والفكري.

قضـــايا جـــدلية

بلغة أنيقة ورؤية ثاقبة، يواصل سموه مشروعه التوثيقي الرائد، إذ يمكن اعتبار هذا الكتاب بمثابة تأسيس لرؤية متكاملة لفهم تاريخ القواسم ودورهم في صياغة ملامح الخليج العربي، حيث يضعنا صاحب السمو حاكم الشارقة عبر أجزائه وفصوله أمام لوحة متشابكة من الأحلاف والمؤامرات والتحالفات الفكرية والدينية، ليؤكد أن القواسم إنما كانوا جزءاً فاعلاً في توازنات الإقليم وصراعاته الكبرى.

يأخذنا الكتاب إلى مراحل دقيقة عند بداية حكم القواسم في رأس الخيمة، وهي مرحلة اتسمت بالتحولات السياسية المعقدة، والتي ظهر فيها العديد من التيارات الفكرية والسياسية المتنامية في الجزيرة العربية، والتي مهدت لعقد اتفاقية مع البريطانيين، وهذا الخيار الاستراتيجي أثار حفيظة بعض القوى في المنطقة.

كما يميط سموه اللثام عن تفاصيل دقيقة تتعلق بمرحلة أسر سلطان بن صقر، وتعيين حسن بن رحمة حاكماً على رأس الخيمة بديلاً عنه، ثم هروبه لاحقاً من سجنه وعودته إلى الخليج لاستعادة سلطته، هذه التفاصيل لم ترد كاملة في كثير من المصادر، لكن سموه أعاد تركيبها بعناية، مستنداً إلى وثائق ومراسلات رسمية.

في سياق هذا الصراع في منطقة الخليج، يوضح سموه كيف أن البريطانيين، رغم تحالفهم الأولي مع القواسم، كانوا يبيتون نوايا مختلفة، فظهور قوى إقليمية أخرى في المنطقة في نهاية القرن الثامن عشر مثل تهديداً مباشراً لهم، وقد رأى البريطانيون في ذلك خطراً يوازي خطر القواسم أنفسهم، بل ويزيد.

ويروي الكتاب بدقة إرسال بريطانيا الكابتن جون مالكولم لتنفيذ خطة شاملة لإعادة بسط نفوذها التجاري والعسكري في الخليج، هذه البعثة التي كانت مقدمة لمشروع استعماري منظم، هدفه تقويض أي قوة بحرية أو سياسية منافسة.

يقف صاحب السمو حاكم الشارقة عند جملة من أبرز القضايا الجدلية في بدايات القرن الثامن عشر، حيث يظهر هنا الدور الأهم للمؤرخ، من حيث تفنيد الروايات المشوهة وكشف الأكاذيب التي صاغتها بعض القوى لغايات سياسية، وذلك من خلال تحليل دقيق للمصادر والمراسلات، يوضح سموه الملابسات الحقيقية التي أحاطت بالعديد من الحوادث، كاشفاً كيف تم توظيفها بعضها سياسياً للإضرار بالخصوم السياسيين.

كشـــــف الحقــائق

من القضايا البحرية التي أفرد لها سموه مساحة واسعة، حوادث السفن الشهيرة مثل بريمر وشانون ومنيرفا، والتي كانت مادة خصبة للبريطانيين لتشويه سمعة حكام المنطقة واتهامهم بالقرصنة، وهي التهمة التي سعت بريطانيا من خلالها لتبرير تدخلها العسكري في الخليج، ولكن عبر الوثائق والمراسلات، يكشف سموه عن جملة من الحقائق حول هذه الأحداث التي كانت سياق الصراع والنفوذ على طرق التجارة في الخليج من أكثر من طرف، وأن تصويرها كأعمال قرصنة مجرد افتراء يهدف إلى تمهيد الطريق أمام الهيمنة البريطانية. يتطرق الكتاب كذلك إلى معاهدة السلام بين القواسم والحكومة البريطانية التي أبرمت على يد الكابتن ديفيد سيتون، ويوضح سموه عبر تحليل البنود والمناقشات أن نية البريطانيين لم تكن أبداً إقرار السلام، بل كانت خطوة تكتيكية لشراء الوقت، بينما ظل الهدف الحقيقي هو السيطرة الكاملة على تجارة الخليج، فالشركة البريطانية لم تتخل عن سياستها في احتكار الملاحة البحرية، بل واصلت تخطيطها لتحطيم القوة القاسمية في رأس الخيمة.

ومن الحقائق التي يعرضها سموه بتفنيد واضح، لجوء البريطانيين أنفسهم إلى بعض القوى الإقليمية عندما عجزوا عن مواجهة القواسم مباشرة، فقد فشلوا في تقديم الحجة أو الدليل ضد القواسم، كما لم يمتلكوا القوة الكافية لإخضاعهم، فاتجهوا إلى تلك القوى في محاولة لتنسيق الجهود لقلب موازين الهيمنة والسيطرة، وهنا يورد سموه وثائق المراسلات بين وليام بروس وزعماء لتلك القوى، مبيناً كيف سعت الشركة البريطانية إلى استخدامهم كأداة لتحقيق مشروعها التجاري الاستعماري.

كما يفند سموه كذلك الروايات المتعلقة بحادثة الطراد فيستال، التي طالما استخدمت دليلاً على «عدوانية» القواسم في المصادر الغربية، عبر قراءة دقيقة للوثائق، يوضح في بحثه حقيقة ما جرى ويفند الروايات التي تم تضخيمها كجزء من الحرب الإعلامية التي شنتها بريطانيا ضد القواسم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى ذروة المواجهة، حيث يصف الحملة البريطانية بقيادة جون مالكولم، التي استهدفت رأس الخيمة بشكل مباشر، وتمكنت القوات البريطانية من الاستيلاء على البلدة بعد مقاومة بطولية استمرت ستة أيام، خلفت قتلى وجرحى، وانتهت بتدمير البلدة وحرق السفن، كما واصلت هذه القوات الغازية زحفها إلى الرمس، حيث أسروا 380 محارباً بقيادة الشيخ محسن بن علي الطنيجي، ولم تتوقف الحملة عند ذلك، بل صدرت الأوامر بهدم كل التحصينات على طول الساحل العربي، من الرمس إلى أبو هيل، في محاولة شاملة لتجريد القواسم من أي قدرة على المقاومة مستقبلاً.

يبين صاحب السمو حاكم الشارقة في كتابه كيف انتهت هذه المرحلة بتوقيع اتفاقية جديدة فرضت على جميع شيوخ الساحل العربي والبحرين، وتم إنزال علم القواسم (العلم الغافري) من حصن الشارقة، ورفع علم الاحتلال البريطاني، لكن سموه لا يترك هذا المشهد بوصفه نهاية، وإنما يقدمه كمرحلة فاصلة بين التحطيم والاستسلام، بداية مرحلة جديدة في تاريخ القواسم، مرحلة أعادت تشكيل ملامح المنطقة لعقود طويلة.

يولي سموه كذلك في كتابه اهتماماً بالجانب الاجتماعي لتلك الحقبة التاريخية، فيرسم صورة دقيقة لأحوال سكان الشارقة في تلك الأيام، حيث لم يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة، وكانت حياتهم قائمة على صيد الأسماك واستيراد التمور والحبوب، بمعنى أن المنطقة لم تكن تملك مقومات الثروة الكبيرة، بل عاشت في بساطة وعزيمة، ما يزيد من مأساوية تعرضها لتلك الحملات الاستعمارية.

قيمة

«تاريخ القواسم» كتاب يتم من خلاله إعادة كتابة للتاريخ على يد مؤرخ وقائد يعرف قيمة الدقة والصدق والأمانة في نقل الوقائع، فصاحب السمو حاكم الشارقة لم يترك مجالاً للروايات المضللة أن تستمر، بل فندها واحدة تلو الأخرى، معتمداً على وثائق ومصادر أصلية، ليمنح القارئ صورة صافية عن تاريخ القواسم في الخليج، ليصبح التاريخ في يد سموه رسالة وطنية وأخلاقية، هدفها إنصاف الأجداد، وحماية الذاكرة العربية والخليجية من التشويه، وتقديم درس للأجيال بأن الحقيقة، مهما طال عليها التزييف، لا بد أن تظهر في النهاية.

وقائع متلاحقة

يقول صاحب السمو حاكم الشارقة في الجزء الثاني من «تاريخ القواسم»: أما في خورفكان، فقد هجمت القوات البرتغالية في عام 1624م على خورفكان، واستطاعت بعد معارك شرسة إخراج كايد بن عدوان من خورفكان بعد سنتين من احتلاله لخورفكان، حيث انسحب إلى الجنوب من خورفكان، متجهاً إلى كلباء، والتي كان قد بنى قلعته على شاطئها.

إلى كلباء وصلت القوات البرتغالية بقيادة كابتن «جاسبار ليتي بيريرا» «Gaspar Lite  Perriera» ودارت المعركة حول قلعة كايد، وقد استولى «جاسبار ليتي» على تلك القلعة بأمر من القائد «روي فرير» في مارس عام 1624م.

جاء خبر آخر عن احتلال البرتغاليين لكلباء كالتالي: «استولى على هذه القلعة من المسلمين الكابتن – الجنرال «روي فرير»، وكان يحكمها القاسمي، وهو مسلم معروف للغاية».

انسحب الشيخ كايد رحمة بن حمود عدوان من كلباء، وتوجه إلى أذن، ليؤسس حكم القواسم على ساحل عُمان.

في عام 1625م، وصلت تعزيزات كبيرة إلى «روي فرير دي أندراد» من «غوا»، إلى خورفكان، حيث كان «روي فرير» متواجداً هناك، وهو نفسه القائد الذي وصل من البرتغال في عام 1619م، يقود الأسطول البرتغالي لمحاربة الإنجليز، وبقيادته هزمت القوات البرتغالية في عام 1622م.

بدأ «روي فرير» العمليات العسكرية على ساحل بلاد فارس، ولا سيما في خور إبراهيم بين هرمز وجاشك وأيضاً في بندر كُنغ، حيث كانت هرمز محاصرة من قبل سرية كبيرة برتغالية، وفجأة، ظهرت قوة بحرية مؤلفة من أربع سفن هولندية، وأربع سفن إنجليزية. لقد تضاربت الروايات بشأن المعركة حول هرمز، فقد عانى كلا الجانبين خسائر فادحة، حيث قتل قائد السرب الهولندي في المعركة، وادعى كلا الجانبين بأنه حقق النصر ؛ ولكن عمليا كانت النتيجة هزيمة البرتغاليين ؛ فقد انسحب البرتغاليون أولاً إلى خورفكان، ومعهم الكثير من القتلى والجرحى، ومن ثم توجهوا إلى مسقط حاملين جرحاهم.

في عُمان، وفي بداية شهر يونيو عام 1623م، قرر أهل الرستاق ورجال الدين أن ينصّبوا لهم إماماً يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وقد وقع اختيارهم على ناصر بن مرشد بن مالك اليعربي، ليكون إماماً لعمان.

منذ العاشر من شهر يونيو عام 1623م وحتى بداية شهر يوليو عام 1623م، شنت قوات الإمام ناصر بن مرشد اليعربي حربا على معظم الولايات، حتى سيطرت قواته عليها، ما عدا سمائل وصحار، وقد وصف البرتغاليون قوات الامام بأنهم أثاروا الرعب في عمان.

لم ترحل القوات العمانية عن حصار مسقط فقام القائـــد العــام للقوات البرتغالية روي فريـــــــر بعــــرض ســـلام بيــــن البرتغاليين والعمانيين، وكان للعمانيين بعض المطالـــب، وهي هدم بعض الابراج التي قام ببنائها البرتغاليون.

وافق القائد العام البرتغالي على هدم الابراج التي طالب العمانيون بهدمها، عندها رحلت القوات العمانية عن محيط مسقط.

بعد التهديدات التي قام بها اليعاربة للبرتغاليين في مسقط، قام القائد «روي فرير «بترتيب الاوضاع وتقوية العلاقات في بحر عمان وإدارتها من مسقط.

بلد عظيم

في سنة 776هـ، الموافق 1374م، كان يتزعم القواسم الأمير إدريس بن قائد بن رحمة القاسمي. أقام القواسم في الرماحية مدة تسعة وسبعين عاماً، وهي معظم حكم الجلائرية للعراق، وتبدأ تلك الفترة بالسلطان معز الدين أويس الذي تولّى بعد وفاة والده حسن بن حسين، حفيد هولاكو.

حكم السلطان حسين بن أويس، ولم تدم مدة حكمه لأن أخاه أحمد بن أويس، قد قام بقتله، فانهالت على السلطان أحمد بن أويس كثير من المصاعب، حيث دخل تيمورلنك إلى بغداد، وانشغلت بالحروب.

كان إدريس (شرف) بن زيد بن قائد بن رحمة القاسمي، قد أعقب في تلك الفترة ابنه قائد رحمة، وأصبح زعيم القواسم في الرماحية.

كانت الرماحية في تلك الفترة بلداً عظيماً يقارب بغداد في الأهمية في زمن عمرانها، وكان فيها سبعون حماماً، وآثارها تصدّق ذلك.

بعد ذلك انتهى حكم الجلائرية للعراق سنة 836هـ، الموافق 1432م، حيث استولى على العراق ميرزا جهانشاه (أسبان) بن قرا يوسف من التركمان المغول الرحالة، وحكم العراق باسم أخيه الأمير بيربوداق المقيم في شيراز في فارس.

كان المولى محمد المشعشع يقوم بالشعوذة وأعمال كالسحر، فتبعه الجهلاء من قومه، وفي سنة 844هـ، الموافق 1440م، قام المولى محمد المشعشع باحتلال واسط وقتل أمراء المغول، منهم أربعون أميراً وابن أمير، وهزم جمعهم، وفرق عددهم، وهربوا من واسط.

في سنة 853هـ، الموافق 1449م، قام الأمير بيربوداق بتعيين قائد رحمة بن إدريس (شرف) القاسمي، أميراً على واسط من قبل التركمان، وضع التركمان مع قايد رحمة بن إدريس القاسمي عساكر من المغول، الأمر الذي دفع الظفير لفك حلف القواسم، فرحلوا إلى نفي في أعالي نجد، ثم استقروا في الضلفعة بالقرب من بريدة في القصيم.

في بداية سنة 857هـ الموافق 1453م، عاد المولى علي المشعشع إلى أنحاء البصرة إثر رجوع الأمير أسبان إلى بغداد، وفي السنة الماضية ذهب الأمير «بير بوداق» إلى فارس، نظراً للاضطراب الحاصل والفتن القائمة بين أولاد شاه روخ بن تیمور.

خلت بغداد من الجيوش الكافية للمحافظة، فقام المولى علي بهجوم على الرماحية، وكانت غنية فاحتلها، فخرج القواسم من الرماحية إلى الهضبة جنوب الشنافية وعلى درب الحج، على بعد ستين كيلومتراً من الرماحية، وهي في منطقة صحراوية، وأرضها مرتفعة، وآبارها عميقة، وغائرة.

في سنة 857هـ الموافق 1454م، قام المولى علي المشعشع بالهجوم على واسط، فاحتلها بعد أن حاصرها، فاتفق أهل واسط مع الأمير قائد رحمة، وخرجوا من واسط، وتوجهوا إلى البصرة؛ حيث مقر الدولة التركمانية.

قام المولى علي المشعشع بتتبع الأمير قائد رحمة القاسمي وأهل واسط، حتى وصلوا إلى البصرة، فقام المولى علي المشعشع، واحتل البصرة، عندها هرب المسؤولون التركمان في سفنهم من ناحية واجهة البصرة لشط العرب، وركب معهم الأمير قائد رحمة أمير واسط ومن معه، وتوجهوا إلى ري شهر في الخليج، حيث الطريق منها إلى شيراز.

عُرف مما تقدّم أن أمراء «قراقوينلو» دامت حكومتهم في العراق مدة، وكان يقوم بإدارة بغداد خلالها ولاة من أبناء الملوك بصورة مستقلة تقريباً، لم تكن تابعة آنئذ إلى سلطة الحكومة الأصلية وأوامرها، وإنما فكت روابطها منها في أكثر الأحيان وعاشت مستقلة نوعاً ما، خصوصاً أيام محمد شاه، وأيام ميرزا جهانشاه (أسبان) والأمير بيربوداق، حتى الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 850هـ الموافق الثالث من شهر ديسمبر 1446م.

بعد ذلك صارت الإدارة بأيدي الأمراء التابعين إلى انقراض تلك الحكومة، بل بقيت إدارتها في أيدي طائفة «قراقوينلو» إلى الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 874هـ، الموافق السادس عشر من شهر ديسمبر 1470م، وفي ذلك التاريخ ماتت طائفة «قراقوينلو»، وبقيت أعمالها في طيات التاريخ، وصار الحكم لطائفة أخرى من التركمان يقال لها: «آق قوينلو» أو البايندرية.

في تلك المدة، لم ير العراق فيها راحة من تلك الحكومة، ولا من بقايا الجلائرية، وإنما كانت تناصبهم العداء وتميل العشائر إليها. قام آل المشعشع وزعزعوا الأوضاع أكثر، واستمر نزاعهم إلى أواخر أيام تلك الحكومة، ومالت إليهم عشائر كثيرة، ثم ظهرت حكومة «آق قوينلو» فغطت سلطتها على الكل، واستولت على بغداد.

المصدر: جريدة الخليج – الملحق الثقافي