يظل هذا التكريم الدولي اعترافا أمميا وتكريما لـ«سلطان الثقافة» القاسمي، ووساما يُعلّق على صدر الثقافة العربية كلها، واحتفاءً برائدٍ لم يترك الكلمة تسقط، ولا التاريخ يذبل، بل لروح الحضارة حين تتجسّد في شخص قائد.
في مشهدٍ باذخٍ مُهيب، امتزجت فيه روح الثقافة بروح الوفاء، حيث كرّمت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة؛ تقديرًا لجهوده الاستثنائية في خدمة اللغة العربية، وحفظ التراث الإنساني عبر مبادرات علميّة ومؤسساتيّة رائدة.
لم يكن التكريم عابرًا أو مجاملةً بروتوكوليّة، بل اعترافٌ أمميّ بما قام به سموه من أعمال تأسيسيّة في أحد أعظم المشروعات الحضاريّة في العصر الحديث: المعجم التاريخي للغة العربية. هذا المعجم، الذي يُعد بمثابة «ذاكرة الأمة اللغويّة»، يستعيدُ جذور الكلمات من أعمق أعماقها، ويوثق تطورها الدلالي على امتداد أكثر من ألفي عام، في مشروعٍ علمي شارك فيه مئات اللغويين من مختلف أقطار العالم العربي.
جاء هذا المشروع ليسدّ فراغًا ظلّ قائمًا، حيث لم تمتلك اللغة العربية منذ نشأتها، معجمًا تاريخيًا يُوازي ما تملكه اللغات الكبرى كالإنجليزية والفرنسية، حتى انبرت الشارقة، برؤية سمو الشيخ سلطان القاسمي، لقيادة هذا العمل الجليل، مؤمنةً بأن اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل وعاء للهوية، ومرآة للحضارة.
ما تمّ إنجازه ليس مجرد معجم، بل هو سرديّة أمّة كتبت مجدها بالحرف، وتاريخها بالكلمة. المعجم التاريخي للغة العربية -الذي يضم 127 مجلدًا- لم يكن يومًا مشروعًا لغويًا فحسب، بل هو استعادة لهوية الأمة في زمن التيه، وإعادة ترتيب لذاكرة الحضارة العربية منذ أقدم العصور، موثقًا لمفرداتها وتحولاتها الدلاليّة والزمانيّة على مدى عشرات القرون.
هذا المعجم -الذي تولت الشارقة قيادته عبر اتحاد المجامع اللغويّة والعربيّة- جهدٌ علميّ وثقافيّ لا نظير له في العالم العربي، وقف خلفه سمو الشيخ سلطان، ليس كراعٍ رسمي فقط، بل كعالمٍ ومؤرخٍ ومُلمٍّ بتفاصيل اللغة وتاريخها، حاضرًا في أدق مراحل التخطيط والتنفيذ، قارئًا ومسهمًا وداعمًا.
ولعل اللّافت في شخصية سموه أن جهوده الثقافية لم تقتصر على الداخل الإماراتي والخليجي، بل تمددت عبر الجغرافيا، لتُثبت أن الثقافة لا تُؤطَّر بالحدود. فقد دعم إنشاء مكتبات عامة ومراكز ثقافية في أكثر من 22 دولة، من إفريقيا إلى آسيا، ومن البلقان إلى جزر المحيط، مؤمنًا بأن الكتاب هو السفير الأجمل بين الشعوب، وبأن محو الأميّة المعرفيّة هو طريق السلام الحقيقي.
ولأن التاريخ لا يُقرأ بالكلمات فقط، بل يُستعاد بالمخطوطات والوثائق، فقد امتدت جهود سموه إلى ميدان آخر لا يقل عظمة: الأرشيف. حيث تكفّل سموه، عبر مبادرات استراتيجية وإسهامات سخيّة، باقتناء مقتنيات نادرة من أرشيفات تاريخية أوروبية تعود للمنطقة العربية، بما فيها خرائط، وكتب، ووثائق تعود لقرون مضت، ثم دعم رقمنتها لتكون في متناول الباحثين وطلبة المعرفة حول العالم.
ولأن التاريخ لا يُكتب بالحبر وحده، بل يُحفظ أيضًا بالأثر، جاءت مبادرة سموه لرقمنة أرشيف "منظمة اليونسكو" كامتدادٍ لرؤيةٍ تحرص على ألا تظلّ الكنوز حبيسة الأدراج. فقد وقّعت هيئة الشارقة للكتاب اتفاقية عالمية لرقمنة أرشيف اليونسكو بتمويل تجاوز 6 ملايين دولار، ليُتاح للعالم الوصول إلى ملايين الوثائق والخرائط والمخطوطات والصور والتسجيلات من أرشيف الإنسانية. إنه حفظٌ للذاكرة من النسيان، وصونٌ للتراث من التآكل.
وما بين سطور المعجم، وما بين ملفات الأرشيف، يظلّ «سلطان الثقافة» القاسمي حاكمًا يُعلي من شأن الثقافة، ويُرسّخ مكانة الشارقة كمنارة للعالم العربي في محافل الفكر، فهو بقلب المؤرخ، وعين المفكر، ويد الراعي، يُجسّد أنموذجًا فريدًا للقائد الذي يوقن أن بناء الإنسان أسمى من أي مشروع، وأن حفظ الكلمة هو حفظٌ للكرامة، وأنّ الثقافة، حين تنبع من القلب، تثمر في العالم احترامًا، وتخليدًا، وتقديرًا من أمم الأرض، ورسالةً بأن الجهود الصامتة، إذا أخلصت النية وتعالت بالرؤية، تُدوَّن في ذاكرة العالم.
ويظلّ هذا التكريم الدولي، هو تكريمٌ لـ«سلطان الثقافة»، نعم. لكنه قبل ذلك، هو تكريمٌ للعربية، وللقارئ العربي، ووسام يُعلّق على صدر الثقافة العربية كلّها، واحتفاءٌ بجيلٍ من الروّاد الذين لم يتركوا الكلمة تسقط، ولا التاريخ يذبل، ولروح الحضارة حين تتجسّد في شخص قائد.
الشيخ سلطان لم يسعَ إلى المجد، بل إلى القيمة. لم يتوقف عند صمت التاريخ، بل حرّره من العتمة. وهكذا، حين تكرّمه اليونسكو، فإنها تكتب رسالة إلى العالم مفادها: أنّ في «الشارقة» رجلًا بحجم أمة!
وختامًا؛ أشرف بكلمة «أمير الفكر» خالد الفيصل في «سلطان الثقافة»: «لكل أمر من الله سلطان، وسلطان الثقافة قاسميّ.. ولكل أمل في الحياة بارقة، وبارقة الآمال شارقة..».
المصدر: جريدة الرياض – د. محمد المسعودي