استمتعت بقراءة سردية الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عن ذاته وهو المؤرخ والأديب، الذي حصل على دكتوراة الفلسفة في التاريخ الحديث من جامعة «إكستر» ببريطانيا عام 1985 كما حاز على دكتوراة ثانية في الجغرافيا السياسية للخليج من جامعة «دورهام» ببريطانيا عام 1999.. وصاحب المؤلفات العديدة في التاريخ، التي من أبرزها دراسته الرائدة عن أسطورة القرصنة العربية في الخليج، ومؤلفاته عن الاحتلال البريطاني لعدن، وتقسيم الامبراطورية العمانية، والعلاقات العمانية ـ الفرنسية، وصراع القوى والتجارة في الخليج.. وغيرها من الدراسات والمؤلفات التاريخية العلمية الموثقة التي تضعه في مكانته بين المؤرخين عن مقدرة وكفاية وانتاج تاريخي علمي رصين.
ولذلك يحتل سموه مكانة مرموقة بين جماعة المؤرخين، ثم إنه الرئيس الفخري لجمعيتنا المصرية للدراسات التاريخية، التي أهدانا مبناها الجميل بمدينة نصر، (أرضا ومبنى وتأثيثا ـ تسليم مفتاح ـ ضمن موجات كرمه التي غمرت وتغمر منشآت عديدة وفاءً لوطن يحبه ويحمل له أجمل الذكريات).
وقد أتحفنا عام 2009 بكتابة سيرة ذاتية ممتعة تحمل عنوانا جذابًا هو «سرد الذات» التي صدرت عن دار منشورات القاسمي بالشارقة، ثم صدرت منها طبعة جديدة عن دار الشروق بالقاهرة عام 2010.
وقد كشفت هذه السيرة عن روح أديب ومؤرخ يدرك قيمة المذكرات السياسية والسير الذاتية بوصفها من مصادر التاريخ، وأديب مطبوع له نتاج أدبي روائي ومسرحي، وإبداعات شعرية تكشف عن موهبة يعرفها قراء الأدب ونقاده ويقدرونها حق قدرها.
سيرة ذاتية متميزة
وليس من شأني هنا أن أتحدث عن نشاطه السياسي والوطني ومناصبه الإدارية والسياسية التي أوصلته ليكون حاكما للشارقة وعضوًا بالمجلس الأعلى لاتحاد دولة الإمارات العربية، فهذا من شأن كُتاب السياسة والمؤرخين المتخصصين، ولكنني سأكتفى هنا بتسليط الضوء على سيرته الذاتية المتميزة «سرد الذات»، وبالتحديد على إيمانه واقتناعه بالفكر القومي العربي وتعبيره عن ذلك من خلال مواقفه وسلوكه وآرائه، كما أسلط الضوء على مرحلة من مراحل تكوينه العلمي والدراسي بالقاهرة قبل أن يصبح حاكما لبلاده منذ يناير 1972، فأتناول سنوات دراسته الجامعية بالقاهرة وتعلقه بها خلال الفترة (1965 ـ 1970).
لقد ذكر الدكتور سلطان أنه كتب هذه السيرة ليوثق فيها تاريخ أهله وبلده على مدى تسعة وعشرين عاما، أي منذ مولده في يوليو عام 1939، وحتى تولى حكم الشارقة في يناير 1972. وقد كتب أن وعيه بالدنيا ظهر وهو ابن الخامسة من عمره، عندما رأى القوات والطائرات البريطانية المشاركة في الحرب العالمية الثانية تتجمع في معسكر بريطاني تابع لمحطة الطيران بالشارقة في ربيع عام 1944، فروى أنه وصلت إلى الشارقة فرقة من سلاح المهندسين الأمريكيين وبنت لنفسها مركزا للتدريب شرق المعسكر البريطاني آنذاك.
عندما كان والده الشيخ محمد بن صقر القاسمي نائبا لحاكم الإمارة (وهو عمه الشيخ سلطان بن صقر). وتذكر الصبي أن والده قام بزيارة مجاملة للقائد الأمريكي، مصطحبا ولديه خالد وسلطان، وأن القائد أخذهم في جولة في المعسكر بسيارة برمائية مكشوفة.
وتذكّر أيضا أن الناس كانوا يحتشدون أمام حصن الشارقة ليستمعوا إلى نشرة أخبار الحرب العالمية الثانية التي كانت في أواخرها عام 1945، وكان نصف الناس يؤيدون دول الحلفاء والنصف الآخر يؤيدون دول المحور.
وتذكر كذلك أن الانجليز كانوا يأتون بالسينما مرة كل أسبوع إلى مناخ الإبل ليعرضوا أفلامًا عن انتصاراتهم في الحرب. وكتب أن نظام الحكم آنذاك كان بسيطا، فإلى جانب عمه الحاكم الشيخ سلطان كان نائبه هو شقيقه الشيخ محمد وإلى جانبه أيضًا عمٌ ثان هو ماجد بن صقر الذي كان يتولى حل مشاكل الناس في مقر له بالسوق، وأنه كان يحّول بعض هذه المشكلات الى قاضى الشرع.. وقد ذكر أن الإنجليز أقاموا مقرا للوكالة السياسية البريطانية بالشارقة، يقيم فيه الضابط السياسي البريطاني.
وذكر كذلك أن والده كان معارضًا لإقامة محطة الطيران البريطانية بالشارقة عام 1931، ويرى أن تكون المحطة مدنية وليست عسكرية. وقد حصل من الإنجليز على خطاب ضمان يحمى استقلال الشارقة وعدم التدخل في شئونها.. (وقد أشار مؤلفنا إلى أنه سجل هذه الأحداث بقدر من التفصيل في كتابه «محطة الشارقة الجوية..»). المهم نلاحظ أن وعى الصبي تفتح على واقع الوجود البريطاني وقواعده العسكرية في البر والبحر، وبالرغم من أن هذا الوجود يستند إلى اتفاقيات أو ـ تعهدات ـ تتعلق فقط بأمور دفاع بريطانيا عن الإمارات وتولى أمورها الخارجية، إلا أن ممثلي بريطانيا، من وكلاء أو ضباط سياسيين أو مقيمين في الخليج، فرضوا هيمنة، تستند إلى الوجود العسكري، على سائر أمور الإمارات داخليا وخارجيا، وعلى من يتولى السلطة، وإن شهد التاريخ على أن بعض الأمراء والشيوخ قد تصدّوا لذلك وحاولوا الفكاك من ربقة هذه الهيمنة.
تطور التعليم في الشارقة
وفيما يتعلق بتعليمه فقد ذكر أنه بدأ بالكتاب عندما كان يتردد على بيت المطوع الشيخ فارس ليتعلم ويحفظ جزء عمَّ وعندما بلغ التاسعة، التحق بالصف الأول بمدرسة الاصلاح القاسمية عام 1948، وكانت مدرسة بسيطة مبنية بسعف النخيل على شكل خيام أرضها مفروشة بالحصير الذي يجلس عليه الطلاب، عدا طلبة الصف الخامس الذين كانوا يجلسون على أدراج، وكان هو وزملاؤه يتعلمون الكتابة على ألواح حجرية سوداء.. وقد استكمل الصبي دراسته في مبنى جديد لمدرسة الاصلاح القاسمية في العام (1949 ـ 1950) بعد أن التحق بالصف الثالث. ولم يتوقف عن تعلم القرآن «حتى ختمه بتلاوته صحيحًا، وليس بحفظه كله».
ومن واقع اهتمامه الشديد والمستمر بالتعليم ومؤسساته، خصص مؤلفنا فصلا في كتابه عن تطور التعليم في الشارقة، تحدث فيه عن مراحله الخمس، بدءًا بالمرحلة الأولى في عام (1951 - 1952) وانتهاءً بعام (1955 - 1956).
وذكر أنه كان لقلة عدد الكتب آنذاك فكان يشترك كل طالبين في كتاب واحد، وكيف أن الشيخ عبدالله السالم الصباح حاكم الكويت عندما زارهم بالمدرسة حل مشكلة نقص الكتب، عندما قرر أن يرسلها من الكويت مباشرة دون انتظار مجيئها من مصر بطريق الهند، مما كان يؤخر وصولها لأسابيع.
وأفاد أن البنات خُصص لهن جزء من المدرسة القاسمية، عُزل بسياج من سعف النخيل. وأضاف أن المدرسة القاسمية ضمت إلى دائرة المعارف بالكويت لتكون تحت إشرافها ورعايتها. وذكر أنه في عام (1955 - 1956) أيضا وصلت البعثة المصرية المكونة من عدد من الأساتذة، وذكر أنه في عام (1954 - 1955) كانت قد تأسست بالمدرسة أول فرقة كشافة بالإمارات، وأنه اختير العريف الأول لها، وأن الكويت تولت ما يلزم لتأسيس أول فريق أشبال في الإمارات، ذلك الذي شارك في المخيم الكشفي العاشر بالكويت، وكان الفتى سلطان هو رئيس الفريق في مارس 1956.
ولما كان حريصًا على إتقان اللغة الانجليزية، فقد التحق بمدرسة مسائية خاصة تدرِّس هذه اللغة، فتعلم فيها كتابة الرسائل للشركات التجارية وكتابة التقارير، كما تعلم الكتابة على الآلات الكاتبة.. وكان له اهتمام الخاص بالثقافة، فعندما سافر إلى البحرين في يونيو 1955 بحث عن «مكتبة المؤيد» التي كانت تورد الكتب لمكتبة عمه الشيخ سلطان بن صقر بالشارقة، والتي كان يقرأ فيها الشاب كثيرا، ومما اقتناه من الكتب: الشوقيات لأمير الشعراء والحيوان للجاحظ، وعنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي، وألف ليلة وليلة وغيرها.
العدوان الثلاثي على مصر
لقد خصص المؤلف فصولا مهمة في سيرته للحديث عن العدوان الثلاثي، الذى قامت به بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر عام 1956، فذكر أنه في 29 أكتوبر 1956 اعتدت بريطانيا وفرنسا وربيبتهما إسرائيل على مصر، وأنهم ضربوا محطة الإرسال التي أقامتها إذاعة صوت العرب بالمقطم فتوقف الإرسال الذى كان يسمع بالشارقة، وإن ظل صوت العرب يصل إلى الشارقة من إذاعة دمشق، وأنهم كانوا حينذاك يتابعون أخبار العدوان والناس هائجة واللعنات تنهال على المعتدين، والهتافات بالنصر لمصر تتعالى، وأنه فكرَّ فيما يمكنه عمله من أعمال المقاومة ضد الإنجليز في الشارقة مهما كانت ضآلته «ليخسر المعتدى ولو بمقدار إبره؟» حسب تعبيره. وقد هداه تفكيره، في أول نوفمبر أن يتجه إلى القاعدة البريطانية بالشارقة وكان شخصهُ معروفا لدى المسئولين فيها، بحكم أنه أحد لا عبى فريق الكرة بها، وكان بذلك يتردد على المكان وذكر أنه ذهب إلى حظيرة الدبابات ليدرس المكان ويتأكد من أن الأسلاك الشائكة للمبنى ليست مكهربة بالليل.
وعندما تأكد من ذلك ذهب بسيارته في 2 نوفمبر 1956 بحجة الإعداد لإحدى المباريات مع فريق المحطة، وعندما وصل إلى مخزن الذخيرة، بعد خديعة الحارس، درس الموقع الذي أتاه ليلا وزحف على بطنه، لكنه لم يلبث أن تراجع بعد أن فوجئ بتشديد الحراسة. وفى 7 نوفمبر اتفق مع صديقين له هما: محمد بن سلطان وحمد المناعي على إشعال حريق جرى بالفعل على البوابة الخلفية للمبنى، تحول فيه الليل إلى نهار، ثم هربوا وكانت هذه هي العملية الفدائية الأولى.
وقد تحدث كاتبنا بالتفصيل الدقيق عن عمليات ثلاث أخرى: منها عملية في 8 نوفمبر، حين استطاع مع صديقيه المشار إليهما، قطع أنبوب المياه الحديدي الذي ينقل المياه للقاعدة وتركوا المياه تنهمر منه بغزارة. أما العملية الثانية فقد قام فيها، مع صديقيه أيضًا، بإشعال النار في مسكن وسيارة القائد الإنجليزي لفرقة المجندين (الليفيز).
أما العملية الثالثة فتمثلت في الإعداد لحرق ثلاث طائرات حربية بريطانية بالقاعدة، وذكر أنه «ربما هي التي كانت تقتل النساء والأطفال في بور سعيد» ولكن العملية اكتشفت قبل إشعال الحريق في الطائرات، وأنه ورفيقيه فروا إلى الصحراء، ليصل إلى بيته قبيل الفجر، ليسأله والده «أأنت الذي تقوم بهذه الأفعال؟»، فلما أجابه بنعم، ضمه الوالد إلى صدره وأخذ يقبله قائلا لوالدته «هذا الولد قام بعمل لم أستطع أن أقوم به»!
لقد كان الشاب يحمل كراهية شديدة للإنجليز، لتدخلهم في الأوضاع الداخلية، فكانوا يتدخلون لإبعاد المدرسين من المدرسة القاسمية، ويضغطون على مكتب الكويت لتنفيذ ذلك، لأنه كان يشرف على المدرسة ويموّلها، وقد ذكر أن الانجليز عزلوا ناظر المدرسة القاسمية حين رأوه يرتقي بالعملية التعليمية، ويشجع إقامة أنشطة مدرسية للطلاب، فضلا عن المهرجانات الرياضية التي كان يحضرها شيوخ الإمارات وجمع غفير من السكان.
وقد ذكر أنه في بداية سبتمبر 1959 أصدرت الحكومة الإيرانية إعلانا عن فتح مكتب لإسرائيل في طهران، الأمر الذي أدى إلى خروج مظاهرات في البحرين احتجاجًا على ذلك، وأن الأمر قد استفزه لذلك قاد بنفسه، مع تريم بن عمران، مظاهرة في الشارقة صباح 5 سبتمبر اتجهت إلى مطار الشارقة للاحتجاج على موقف حكومة الشاه.
وذكر أنه قبل سفره إلى الكويت كان ترتيبه الأول في الصفوف الدراسية دائما، وكان الرقيب الأول على فرقة الكشافة، ورئيس فريق كرة القدم، كما أنه أصدر مجلة حائط عنوانها «التقدم» بالعربية وأخرى بالإنجليزية، وأنه كان يكتب مقالاتها جميعا بنفسه، كما كان يرسم وسائل الإيضاح لجميع الصفوف.
النادي الثقافي في الشارقة
وحدثنا الدكتور سلطان في سيرته عن «النادي الثقافي بالشارقة» الذي كان قد تأسس على يد مجموعة من شباب الشارقة عام 1966. وكان نشاطه ثقافيا محضًا، حيث أغلق لأربع سنوات. ثم جاء هو وأعاد افتتاحه ثانية، واتخذه، إلى جانب نشاطه الثقافي، مقرا لفريق كرة القدم التابع لوزارة الأشغال البريطانية، وأنه تولى رئاسة ذلك الفريق. وروى أن أحد المترددين على النادي أعطاه كتابا عنوانه «في سبيل البعث» تأليف ميشيل عفلق، وأنه طلب منه الانضمام لحزب البعث. وأضاف أنهم بعد أن أتموا الدراسة بالصف الثاني بالمدرسة القاسمية تقرر أن يستكملوا دراستهم في الفصلين الثالث والرابع الثانوي في ثانوية الشويخ بالكويت.
ومع بداية العام الدراسي (1960 – 1961) سافر إليها ومعه «الخلية البعثية» التي كان رئيسها، وبرفقته تريم بن عمران وعبدالله بن سالم العمراني، وهناك التقوا خلية من حزب البعث، وقضوا أسابيع بين الترقب، والخوف والتخفي والمخادعة.. حتى أتى موضوع التجني على الرئيس عبدالناصر في أثناء النقاش.. وهنا ثار تريم وهمَّ بالخروج، ثم دارت نقاشات اتفقوا بعدها على الانسحاب من حزب البعث، لأنهم كانوا يرون في جمال عبدالناصر بطلا قوميًا ونصيًرا لحركات التحرر من الاستعمار.. وذكر سلطان أنه قال للمسئولين البعثيين بالكويت إنه «يرفض أن يستمر في هذا التنظيم الذي يتهكم على الوحدة التي كانت سبب دخولنا البعث، ويشتم عبدالناصر الذى هو رمز تلك الوحدة، ونحن لن نسكت على هذه الإهانات»، وعندما هددوه، رد بأنه سيكشف كل عناصر البعث في الكويت وقطر والشارقة للسلطات.. وقد نتج عن هذا الموقف أن جرت محاولة اغتياله بسيارة مسرعة كانت دون أرقام، ولكن الله سلَّم.
وفى 25 ديسمبر 1960 عاد إلى الشارقة، حيث عرضت عليه بعض الوظائف لكنه اعتذر عن عدم قبولها. وإن قبل أن يعمل مدرسًا بالمدرسة الصناعية بالشارقة، حيث بدأ يدرّس اللغة الإنجليزية والرياضيات، وقد استغرق عمله هذا من (فبراير 1961 حتى سبتمبر 1963). وفى أبريل 1963 صدر بيان بإعلان مشروع وحدة ثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، وبهذه المناسبة أقيمت احتفالات في الشارقة ارتفع فيها علم الوحدة ذو النجوم الثلاثة.
وفى ظل تحمس سلطان لهذه الوحدة قاد بنفسه مظاهرة حاشدة بهذه المناسبة ارتفعت فيها صور عبدالناصر، الأمر الذي أثار المسئولين الإنجليز بالشارقة، ونتج عنه أن تلقى تحذيرا بعدم القيام بأي مظاهرة، كما أن الجنود التابعين لقوة ساحل عمان انتشروا في كل الأماكن ولديهم تعليمات بالتصدي لأي مظاهرة مع التهديد باستعمال القوة، الأمر الذي اضطر سلطان أن يوقف استعداد المتظاهرين.
وحدثنا الكاتب عن احتفال شارك فيه تم في مدرسة البنين بدبي في 23 أبريل 1963 بمناسبة صدور إعلان الوحدة، ألقيت فيه بعض الخطب السياسية، وعندما خرج المحتفلون في مظاهرة تصدت لهم الشرطة وفرقتهم بالعصىّ.. وذكر أن الحماسة لدولة الوحدة الثلاثية كانت لا توصف، ولم يكن الطلبة والمواطنون وحدهم هم المؤيدين لجمال عبدالناصر، فقد ارتفعت أعلام الجمهورية على سيارات الأجرة وعلى المباني والمراكب والسفن الراسية في خور دبي، وكانت الجماهير تصرخ: ناصر ناصر «الأمر الذي أكد للإنجليز أن الجميع يؤيدون عبدالناصر».
زيارة القاهرة
وفى صيف 1963 توجه الشاب إلى القاهرة، ومنها إلى الإسكندرية لعلاج ساقه التي أصيبت بشرخ في إحدى المباريات، ثم عاد إلى القاهرة لعمل جراحة لإزالة الزائدة الدودية بعد التهابها، وهناك التقى زملاء دراسته الذين كانوا في نهاية السنة الدراسية الأولى بجامعة القاهرة. وقد طلبوا منه أن يبقى معهم بمصر، وأن يواصل الدراسة في كلية الشرطة بنظام الطلبة الشرقيين، الذين يقبلون بالشهادة المتوسطة، لكنه وعدهم بأن يلحق بهم بعد حصوله على الثانوية العامة.
عاد إلى الشارقة وقدم استقالته من العمل بالمدرسة الصناعية وقدم أوراقه لمكتب الكويت في دبي ليلحق بالصف الثالث الثانوي العلمي بمدرسة دبي الثانوية. ولما علم بذلك مساعد الوكيل البريطاني في دبي (مايكل بيرتون) دعاه لزيارته، وطلب منه أن يعدل عن استقالته وأغراه بأنهم سيرسلونه في بعثة للدراسة ببريطانيا، فاعتذر قائلاً: كم من وعود تبخرت! فرد المساعد: هل نحن كاذبون؟ فقال سلطان «فسرها كما تشاء» فعلق المساعد: قبل ذهابك إلى مصر كانت أخلاقك كريمة.. وبعد ذهابك للمصريين أفسدوا أخلاقك.. ورد سلطان «إذا كانت الصراحة فساد أخلاق، فاللهم زدني منها»، وهدده المساعد بأنه سيمنعه من الاستقالة، فرد سلطان «إنك لا تستطيع أن تمنعني من أن أخرج من مكتبك». في تلك الأثناء انتشر المد القومي العربي بين الناس على مختلف فئاتهم، عامة الشعب وطلبة المدارس والأعيان في الشارقة ودبي، وكذلك حكومة الشارقة المتمثلة بالشيخ صقر.
مسرحية «وكلاء صهيون»
وقد حدثنا سلطان بأنه وهو طالب في مدرسة دبي الثانوية كان يدير «نادى الشعب» الثقافي والرياضي بالشارقة، وأنه قام بتأليف مسرحية عنوانها «وكلاء صهيون» أخرجها ومثَّل فيها دورين رئيسيين، عرضت في نهاية عام 1963، وذكر أنه كان يجلس في الصف الأول للمتفرجين (مايكل بيرتون) مساعد الوكيل السياسي البريطاني في دبي حيث دعاه سلطان لحضور العرض، الذي مثَّل فيه سلطان شخصية موشى ديان، وأنه أجرى فيه حوارا تليفونيا– داخل العرض – هتف ديان فيه بالخارجية البريطانية لقد صنعتمونا وجعلتم منا مخلب قط لمصالحكم.. جمعتمونا من كل بلد لتجعلونا أداة من أدواتكم العدوانية" وكان يوجه الكلام لبيرتون الذي غضب من ذلك، وألح على الحاكم الشيخ صقر في اليوم التالي لإيقاف العرض، وإغلاق النادي الذي أغلق بالفعل.
خلال ربيع عام 1964 شنت الصحافة العربية حملة ضد تزايد الهجرة الإيرانية إلى إمارات الخليج، الأمر الذي بات يهدد عروبة المنطقة، ويخل بالتركيبة السكانية.. وخلال صيف نفس العام زار الأستاذ بدر الخالد السفير بوزارة الخارجية الكويتية المنطقة وأعد تقريرا صوّر الأمر بصورته الحقيقية، معلقا بأن المنطقة في حاجة ملحة للمساعدة والدعم. وفى أكتوبر 1964 أعلن الأمين العام للجامعة العربية عبد الخالق حسونة أنه سيرأس بعثة لإقامة علاقات رسمية بين إمارات الخليج والجامعة لأجل دراسة السبل الكفيلة بالمحافظة على الهوية العربية. وتقرر أن تبدأ الزيارة في 28 أكتوبر 1964.
شهادة تاريخية
وفى شهادة تاريخية مهمة لخص الدكتور سلطان قصة مجيء البعثة في تسجيل شبه يومي لنشاطها. وصوّر كيف اكتظت السيارات بالعمال اليمنيين والعدنيين وبعض طلبة المدارس الذين قدموا من الشارقة وأخذوا «يهتفون بالنصر لجمال عبد الناصر، والسقوط للإمبريالية».
وذكر أنه شخصيا كان في استقبال البعثة عند مشارف الشارقة وأنه كان يتحدث إلى الجماهير من خلال مكبر للصوت على ظهر سيارة، حتى وصلت البعثة إلى بيت الحاكم الشيخ صقر الذي اجتمع بأعضائها اجتماعًا مغلقًا تم فيه بحث طبيعة المساعدات المطلوبة. ثم كتب عن زيارة وفد الجامعة العربية لبقية إمارات الساحل، وتم الاتفاق بين الوفد وحكام الإمارات على إرسال بعثة فنية لدراسة احتياجات المنطقة من المشروعات الضرورية المطلوبة.
وقد فصَّل الدكتور سلطان الحديث عن نشاط البعثة الفنية للمنطقة في نوفمبر1964، وعن زيارة حاكم الشارقة الشيخ صقر بن سلطان للسعودية وحديثه مع الملك فيصل عن مشروع الطريق الذي ستتكفل المملكة بإنشائه.
وكتب عن لقاء الشيخ كذلك بالوكيل السياسي البريطاني في دبي (بلفوربول)، حيث تحدثا عن موضوع المساعدات التي سيقدمها الملك فيصل وما تقدمه الجامعة العربية لتمويل مشروعات تطوير إمارات الساحل.
البعثة الفنية للجامعة العربية
كما تحدث عن البعثة الفنية للجامعة العربية التي أتت للشارقة في 17 ديسمبر 1964، وذكر معلومات مفصلة عن أسماء أعضائها ومهامهم، وأوضح أن (بول) التقى بأعضاء الوفد وطلب من رئيسه (د. محمد سالم) أن تقدم الجامعة العربية مساهمتها المادية إلى صندوق التطوير المركزي الذى يديره مجلس الإمارات، «وإلا ستكون هناك خطورة من التداخلات بين خطط المجلس وخططنا» الأمر الذى سيضع هذا الصندوق تحت العباءة البريطانية بطبيعة الحال ، ويبدو أن الدكتور محمد سالم فطن إلى ذلك، وذكر له أن الجامعة العربية لها أفكار أخرى وأن مساهمتها ستدار بوكالة مشابهة لصندوق المساعدات الفنية التابع للأمم المتحدة.
وأضاف أن عبد الخالق حسونة أكد له أن هناك مبلغ ستة ملايين جنيه إسترليني ستطلب في اجتماع رؤساء الوزراء العرب في الجامعة العربية، الذي سيعقد في 9 يناير عام 1965.
وكتب الدكتور سلطان أن الشيخ صقر حاكم الشارقة التقى الوكيل السياسي البريطاني (بول) في دبي فى 27 يناير 1965 والذي كان مفوضًا من المقيم السياسي البريطاني في الخليج (وليم لوس) بأن يمارس أساليب للضغط على الحاكم سياسيًا وإخضاعه، بل وتهديده بأنه ليس مخلصًا للاتفاقية التي وقَّعها مع الحكومة البريطانية عند توليه الحكم، ولكن الشيخ ردَّ بأنه بلا أموال لتطوير بلاده المتخلفة، وعليه أن يقبل المعونة من أينما تأتى.
وقد أصدر مجلس الجامعة في بداية شهر فبراير 1965 مجموعة قرارات تتضمن إنشاء صندوق للجامعة يتم تمويله بمساهمات تطوعية من الدول العربية وإمارات الخليج، لينفق منه على مساعدة إمارات الساحل وتقديم الخدمات لها، ولكن السلطات البريطانية في الخليج من جانبها سارعت بالتصدي لذلك.. وفى اجتماع عقد في مجلس الإمارات في أول مارس 1965 قرر الحكام إنشاء «مكتب تطوير الإمارات» وصندوق تابع له ليتلقى معونات جميع المساهمين.
وعندما زار سيد نوفل الأمين المساعد للجامعة الشيخ صقر في 10 مايو 1965 حمل منه رسالة إلى الأمين العام يشكر فيها الجامعة لخطط التنمية ويرحب بتنفيذها فورا واتخاذ الترتيبات لإنشاء مكتب في إمارة الشارقة.
موقف تاريخي
وقد سجل مؤلفنا موقفا تاريخيا للشيخ صقر بن سلطان حاكم الشارقة، تصدى فيه لوزير الدولة البريطاني جورج طومسون ومعه المقيم السياسي بالخليج وليم لوس والوكيل السياسي في دبي بلفور بول في 13 مايو 1965، عندما خاطب الوزير الشيخ الحاكم محذرا إياه من العمل مع الجامعة العربية والتعاون معها.
موضحا أن المعاهدة المبرمة بينه وبين بريطانيا تمنعه من الاتصال بأي أجنبي في أمرٍ يتعلق بالشئون الخارجية إلا من خلال المقيم السياسي البريطاني.. وعندما قال الوزير «بأننا نهتم بمصالحكم»، سأله الحاكم مستنكرا «مصالحكم أم بمصالحنا؟» واتهم بلاده بريطانيا بأنها لا تنظر إلا إلى قدميها فقط.. وأن المعاهدة التي أشار إليها الوزير ليست عادلة لأنها أُبرمت بين طرف ضعيف وطرف قوى ويجب إعادة النظر فيها.. وما يهمني الآن هو تطوير بلدي.
وعندما ذكر الوزير أن بلاده تنفق الملايين سنويا على مئة ألف نسمة في الإمارات، رد الشيخ.. «تقصد ما تنفقونه على الجيش أو كشافة ساحل عمان» فرد الوزير بأن الكشافة أنشئت لحماية الحاكم وأنابيب النفط، هنا علَّق الشيخ: «ليس لدى شيء أشكر الحكومة البريطانية عليه على مر السنين». وعندما طلب الوزير منه سحب موافقته على فتح مكتب للجامعة العربية ببلاده، رد الحاكم بأنه «لا يستطيع ذلك وأنكم تستطيعون أن تفعلوا ما تريدون بالقوة. لقد أصبحت صداقة بريطانيا طعنة في الظهر وحاجزًا أمام تقدمنا.. العرب إخواننا ولن نرفض عونهم».
وهكذا لم يخضع الشيخ لترهيب وتهديد السلطات البريطانية تجاه وجود الجامعة العربية، فسجل موقفا تاريخيا مشهودًا.
المصدر: جريدة الأهرام المصرية – د. أحمد زكريا الشلق
نُشر المقال في 4 أجزاء منفصلة